| 19 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: خطاب الدين والجهاد من أجل السلام

  • | الجمعة, 20 أكتوبر, 2017
رجائي عطية.. يكتب: خطاب الدين والجهاد من أجل السلام
رجائي عطية

الجهاد الإسلامى لم يكن للبغى أو الظلم والعدوان.. الجهاد فى الإسلام هو لمدافعة ورد البغى والجور والظلم وإزالة الصد المتجبر الطاغى عن سبيل الله.. الجهاد قدرّ على صاحب الحق حين يجور عليه البغاة والطغاة ويضيّقون عليه الخناق ويبذلون فى إيذائه والعدوان عليه كل نكير.. حين تكون المدافعة ضد العدوان قدراً مقدوراً، يفرط صاحب الحق فى حقه وفى وجوده ذاته إذا قعد عن بذلها.. هذه الحقيقة واضحة جلية فى أول ما نزل من القرآن المجيد إذنا بالجهاد بعد أن أعضل البغاة بالإسلام والمسلمين وأذاقوهم الأمرّين وسدوا أمامهم المنافذ وكل سبيل.. بعد أن أعنتوهم وآذوهم وعذبوهم وقتّلوهم وتآمروا عليهم وأخرجوهم مهاجرين من ديارهم، ولاحقوهم بالكيد فى مهجرهم بالحبشة، وبالأذى والنكير فى دار هجرتهم بيثرب، وتآمروا عليهم فى تحالف جَمَعَ كل قوى الشر البغى رغم اختلافهم! على هدف واحد هو خنق الإسلام ومطاردة المسلمين!!

هؤلاء المعذبون المطاردون الملاحقون المأذيون المضرورون المهاجرون.. لم يبادروا أحداً بعداء ولا بعدوان.. أكرهوا إكراها على مفارقة الوطن والدار والأهل والمال.. احتملوا ما احتملوه فى صبر شديد، حتى أذن الله تعالى لهم بالدفاع عن أنفسهم.. هذا الدفاع الذى لم يعد لهم مندوحة عنه، أو سبيل سواه.. يقول القرآن المجيد: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» (الحج 39، 40).

العلاقة بين الناس فى شرعة الإسلام علاقة سلم، لا يقطعها إلاّ الاضطرار للدفاع لدرء بغى من يبغى على الإسلام أو المسلمين.. ومع أن الجهاد هنا ضرورة ملجوء إليها لا مناص ولا مفر منها، فإن المسلم مأمور بأن يكتفى فى دفاعه بالقدر الذى يدفع به الأذى، بل ومأمور بتأخير المواجهة ما بقيت له وسيلة إلى الصبر والمسالمة.

علاقة المسلمين بمن لم يقاتلوهم أو يخرجوهم من ديارهم علاقة سلام وبر ومودة: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الممتحنة 8).. النهى عن الموالاة إنما هو عن الذين اعتدوا وقاتلوا المسلمين فى دينهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم.. «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (الممتحنة 9).. الحرب لا تكون طلبا للنفوذ أو السلطان أو التوسع: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِى الأرْضِ وَلا فَسَاداً» (القصص83).. ولا تكـون الحرب للانتقام أو العدوان: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة2).. ولا للتخريب والإتلاف والإفساد: «وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا» (الأعراف56)..

والدفاع فى الإسلام دين «العالمية» الخاتم رهين بعلته وغايته.. لا يقبل ما استباحته شرائع سابقة من نهب وسلب واستعباد وتسخير.. ففى العهد القديم لليهود، بالإصحاح العشرين من سفر التثنية، تقول الشريعة اليهودية لأبنائها المقاتلين:

«حين تقرب من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير (!!) ويُستعبد لك (!!!). وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف (!!) وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما فى المدينة وكل غنيمتها فتغنمها لنفسك (!!!) وتأكل غنيمة أعدائك (!!!) التى أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. أما مدن الشعوب التى يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبقى منها نسمة ما بل تحرمها تحريما!!!». (سفر التثنية، الإصحاح /20، 11 17)

وأقسى من هذا الجزاء جزاء المدن التى ينجم فيها ناجم بالدعوة إلى غير إله إسرائيل، فإنها كما جاء فى الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية:

«فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف (!!) وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف (!!) تجمع كل أمتعتها (!!) إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار (!!).. المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعده!! ». (سفر التثنية، الإصحاح /13، 16 17)

لا هدف للإسلام إلاَّ درء الطغيان

أما الإسلام الدين «العالمى» الخاتم فلم يعمد إلى القوة إلا لمحاربة القوة التى تطغى أو تجور أو تجتاح الديار أو تصد عن سبيل الله، فإذا كان لا مندوحة عن الدفاع، ففى إطار غايته لا يتعداها.. حتى إن الإسلام أول الشرائع التى وضعت أسس ما يسمى الآن بقانون الحرب.. «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» (الحج 39، 40).. هذا الإذن بالدفاع هو فى حدود درء العدوان ولا يبيح الاعتداء.. القتال مشروع لضرورة دفع من يقاتل المسلمين دون بغى ولا تجاوز ولا عدوان.. «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة 190).. «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».. (البقرة 194) فالرد على قدر الحاجة، والدفاع مقدور بقدر الاعتداء.. لا يجاوزه.. بل والصبر خير للصابرين.. «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ» (النحل 126).. القتال لضرورات منها درء الصد عـن سبيل الله والدفاع عـن المستضعفين المظلومين المقهورين من الرجـال والنسـاء والولدان.. «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا».. (النساء75).. المسلمون مأمورون بالتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.. «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة2)..

مبادئ إنسانية

الجهاد المباح إذا أبيح هو تجاه المقاتلين لا سواهم إذا كان لا مندوحة عن القتال، فوصايا الإسلام تقول: «لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين».. فى وصية أبى بكر إلـى يزيد بن أبى سفيان وهـو شاخص إلى الشام: «أوصيكم بتقوى الله، ولا تعصوا ولا تغلوا، ولا تهدموا بيعة، ولا تحرقوا نخلاً، ولا زرعاً، ولا تذبحوا بهيمة، ولا تقطعوا شجرة، ولا تقتلوا شيخاً ولا صبياً ولا صغيراً ولا امرأة وستجدون أقواماً قد حبسوا أنفسهم فى الصوامع (يتعبدون) فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له».

فى واقعة أُحُد مثلوا بحمزة عم النبى تمثيلاً شنيعاً، بقرت بطنه ولاكت كبده هند بنت عتبـة وزوج أبى سفيان آكلة الأكباد.. فلم يرد المسلمون عليهم ولم يمثلوا بأحد من قتلاهم.. بل ونهى عن ذلك رسول القرآن صلى الله عليه وسلم فقال: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور».. الحرب محكومة بغايتها وضرورتها والمواجهة فيها مقصورة على المقاتلين.. لا عدوان ولا مساس بشيخ أو امرأة أو طفل أو جريح أو أسير.. الأسير مرعـىّ ومصون، «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» (الإنسان 8) والمن سابق على الفداء فى إطلاق الأسير.. «فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» (محمد 4).. والجهاد إذا شرع فليس للإيذاء ولا للدمار.. فلا تخريب ولا إتلاف.. وخلاصة هذه الوصايا أجملها أبوبكر الصديق فقال: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تعقروا نخلا ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».. المسلمون لا يبادرون إلى قتال من يبغون عليهم، وإنما يدعونهم أولا، بل ولا يبادئون بقتال حتى يبدأوا.. فى وصية نبى البر عليه السلام إلى معاذ بن جبل: «لا تقاتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا، فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً: ثم أروهم ذلك، وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا السبيل، فلأن يهدى الله على يديك رجلاً واحداً خير مما طلعت عليه الشمس وغربت».

الإسلام الدين «العالمى» الخاتم، يدعو المسلم إلى السلم مادام «الباغى» قد عدل عن بغيه وعدوانه وجنح إلى السلم.. «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً» (النساء 90).. «وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (الأنفال 61).. بل إن الجنوح للسلم دعوة مقبولة حتى وإن شابتها مظنة الخديعة: «وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» (الأنفال 62).

ضوابط الجهاد

ضوابط الجهاد لا تؤخذ ولا تستقى من أفكار الخارجين عن نص وروح الإسلام، ولا من شطحات المغلوطة تصوراتهم عن الإسلام، ولا من مغالاة المغالين الذين لم تتسع رؤيتهم لتستخرج القواعد الصحيحة من الرؤية الكلية الشاملة الكاملة التامة لديانة الإسلام وروحه وأحكامه.. تلك الرؤية التى تفرق بين الأمهات وبين الوقائع الآنية الوقتية المحكومة بمناسبتها أو بظروفها والتى ينبغى أن تكون محكومة فى جميع الأحوال بالآيات اللائى هن أم الكتاب، وبالأحكام العامة الكلية التى يقوم عليها صرح الدين الحنيف الذى أراده الله سبحانه وتعالى وجعله دينا للعالمين..

أصاب الشيخ الجليل عبدالوهاب خلاف حين نبه فى كتابه السياسة الشرعية إلى أن هناك من لا يلتفت إلى أن بعض آيات الجهاد نزلت مقترنة بالسبب الذى من أجله شرع القتال فى مناسبات معينة محددة.. هذا القتال الذى شرع أو حض عليه أو دعا إليه فى تلك المناسبات أو الظروف الآنية المعنية هو لقطع الفتنة أو حماية الدعوة أو دفع الاعتداء.. يذكر فى القرآن أحياناً مقروناً بسببه، وأحياناً أخرى تكتفى الآيات بعلم السبب فى آيات أخرى.. فلا موجب فيما يقول الشيخ الإمام لتقرير تعارض بين الآيات، أو القول بنسخ المطلق للمقيد.. فهذا تمزيق للآيات يتجاهل أن الآيات المستند إليها كانت مقرونة بأسبابها لمواجهة حوادث بعينها استوجبت استنفار المسلمين للدفاع.. مثلا: ما نزل من سورة الأنفال فى غزوة بدر الكبرى (الآية 65).. «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ» (الأنفال 65).. الكفار المعنيون فى الآية هم كفار وطواغيت قريش، وكانوا هم المعتدين الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم وتابعوهم بالإعنات والنكال.. فالتحريض هنا هو للدفاع لا العدوان.. كذلك فى غزوة أحد كان كفار قريش هم المعتدين، ونزلت الآية 118 من سورة آل عمران مقرونة بسببين.. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» (آل عمران 118).. كذلك بعض آيات سورة التوبة أو براءة نزلت فى ناكثى العهد من الكفار والمشركين.. «وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» (التوبة 5).. المحاصرة المطلوبة هى لكفار بعينهم وبذواتهم نكثوا عهدهم وكادوا للمسلمين.. لذلك قال القرآن المجيد: «فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (التوبة 7).. وقال بعد ذكر نكثهم: «أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (التوبة 13).. هذه الآيات وفى مقامها ومناسبتها المحددة لا تفيد القتال على إطلاقه، بل لأسباب بعينها يجمـع بينها الدفـاع أو درء الفتنة وتأمين الجوار، لا البغى ولا العدوان (الشاطبى: الموافقات 3 /58، تفسير المنار رشيد رضا 11 / 279، شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ص 16)..

القرآن المجيد حافل بآيات يستحيل معها أن يكون الجهاد للبغى والعدوان، أو لنشر الدين.. فى خطاب قرآنى واضح جلى وصريح موجه للمصطفى عليه السلام: «إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ» (فاطر 23).. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» (سبأ 28).. «إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاغُ» (الشورى 48).. «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية 21، 22).. «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (يونس 99).. «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة 256) «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» (النحل 125).

أجل حارب الإسلام وحارب المسلمون، ولكنهم لم يحاربوا لنشر عقيدة، ولم يحاربوا للعدوان والتغول على عباد الله، ولم يحاربوا للاستعلاء فى الأرض، ولا لإفساد فيها.. حارب الإسلام مضطراً إما للدفاع ودرء الفتنة، وإما لمواجهة ودرء الصد عن سبيل الله وضرب الدعوة، وإما لحماية الجوار فى دولة الإسلام..

لم يتوقف الهجوم والتعدى على الإسلام والمسلمين قط.. مشاهد التاريخ تؤكد وتروى أن ما صادف الدعوة الإسلامية فى مهدها ظل موصولا فى إصرار غريب من أعدائها.. ترصَّدت للإسلام والمسلمين قوى البغى والشر والطغيان فى كل أوان.. وتتالت عليهم حملات الطامعين والبغاة.. هاجمهم الروم، وهاجمهم وناوشهم الفرس، وهاجمتهم موجات متتالية من التتار.. وغزاهم فى ديارهم ومقدساتهم من اتشحوا بوشاح الصليب، والمسيحية بريئة بمبادئها السامية مما فعلوا.. إن الذين كتبوا فى «الجهاد» فى هذه الأقطار الإسلامية المعتدى عليها، كتبوا من وحى ما وقع على أقطارهم من ظلم وبغى وعدوان.. طبيعى أن تكتوى آراؤهم بالتجارب المرة التى صادفها الإسلام قديما والتى ظل يصادفها إلى الآن، وبالاعتداءات الغاشمة المتتالية على أهلهم وناسهم وأقطارهم.. يستطيع المستقرئ للكتابات المختلفة أن يلمس هذا الاتجاه فى الكتابات التى واجهت غزو المغول، وفى كتابات الشمال الأفريقى الذى اكتوى بالاستعمار الفرنسى وممارساته الباطشة.. وفى كتابات الذين انفعلوا بموجات الحروب الصليبية وما فعلته فى مصر والشام تحت شعار الصليب والصليب منها براء.. هذا الاتجاه تكرسه اليوم هذه الحملات الدامية المتتالية التى تتهجم بها الحضارة الغربية على الإسلام والمسلمين، فى البوسنة، والهرسك، وألبانيا، والفيلبين.. فى التحالف المزرى المؤسف الظالم بينها وعلى قمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبين ترسانة السلاح والعدوان والاحتلال الإسرائيلى الاستيطانى الذى أتى ويأتى فى فلسطين على الأخضر واليابس، ويبيد شعباً مسلماً بأكمله، لا يستثنى من ذلك طفلاً ولا شيخاً ولا امرأةً!!

مواجهة العدوان والحروب العدوانية تستوجب استنفار نفوس الشعوب المعتدى عليها للدفاع عن مصيرها بل عن وجودها نفسه..

ذات هذه الأسباب هى التى دعت البعض فيما أعتقد إلى عدم التوقف عند أسباب ومناسبات نزول بعض الآيات التى كانت لمواجهة عدوان معين محدد وقع على الإسلام والمسلمين يستوجب استنفاراً وحضاً لمواجهته بالدفاع الذى توجبه كل شريعة من شرائع السماء وقوانين الناس لمواجهة الاعتداء.. لا توجد شريعة من الشرائع تحرم الآدمى فرداً أو شعباً من حق الدفاع إزاء العدوان، والاستنفار لدفع الاعتداء بالدفاع الشرعى لا يعنى أن الحرب هى الأصل.

الخطأ فيهم لا فى الإسلام

أجل، هناك من شردوا عن الإسلام وفسروه تفسيراً مغلوطاً.. بيد أن العيب فى نظرهم لا فى الإسلام، والخطأ فى فهمهم لا فى الإسلام.. لا يسأل الإسلام ولا يحسب عليه إلاّ ما فيه.. ما تضمنته أحكامه قرآناً وسنةً، بغض النظر عن مرايا الآخرين مقعرة أو محدبة.. حتى لو كانوا من المنتسبين إليه أو المحسوبين عليه.. فالحركات الغالية أو الشاردة أو المغلوطة لم تخلُ منها جماعة أو أخرى محسوبة على هذا الدين أو ذاك، أو على هذه الشريعة أو تلك، ولولا أن يظن أن مقصدنا هو الإساءة للآخرين لسردنا صحائف سوداء من هذه الممارسات وهى بالغة الكثرة والتنوع، لم يترد الإسلام فى سحبها على الشرائع أو الديانات الأخرى التى خرجت منها أو عليها مثلما يريدون أن يفعلوا به الآن!!.

ولا شك أن المسلمين مطالبون اليوم بترصد الحركات والكيانات الشاذة التى تتخذ من التكفير وسيلة إلى العنف والقتل والذبح والإهلاك، ناسبين أنفسهم كذباً إلى الإسلام.

هذا الترصد الواجب، لا يتوقف فقط عند استئصال هذا الجنوح الضال، وتصفية كياناته ومعسكراته وأسلحته، وإجهاض حركته التى تدمر الإنسانية والسلام، وإنما يجب أن يمتد هذا الواجب إلى إيضاح انقطاع صلة هذه الحركات بالإسلام، وكذب ادعاءاتهم بأن مرجعيتهم إسلامية أو من أجل الإسلام، فالإسلام والمسلمون أول المصابين بهذا العنف الضال والعمليات الإجرامية الدموية التى يقوض بها سلام المجتمعات وسلام العالم.

على أن مقاومة هذه الجنوحات وضربها وتجفيف ينابيعها، لا يعنى استسلام المسلمين للتجنيات على حقوقهم ومصالحهم ووجودهم، فدفع هذا كله دفاع شرعى مشروع فى كل الشرائع السماوية والوضعية، والاستعداد لمقاومة هذا العدوان واتخاذ وسائل الدفاع، لا تثريب عليه وليس ضد السلام، بل هو واجب لازم لأن من لا يقدر على الحرب ورد العدوان، لن يستطيع تحقيق السلام.

الإسلام لا يبادر أحداً بحرب ولا بعدوان، بيد أن الحماية من العدوان ودفعه، واجب مشروع، والقعود عنه تفريط لا يجوز.

لن يكون للحضارة الإنسانية وجود، ما لم تملك القدرة على الدفاع عن نفسها ونبذ ومحاصرة العنف والعدوان، فذلك هو السبيل الحقيقى للسلام.

لا نتجبى على الإسلام، ولا يتجبى عليه أحد، حين نقول إن دعوته العالمية استوجبت السلام الذى ظل روحه ومهجته منذ كان وإلى آخر الزمان.. حسب المسلم وحسب الآخرين، أن يراجعوا منظومته فى العدل وكراهة الظلم، وفى شخصية المسئولية، وفى السماحة التى اتسعت للجميع، وفى احترام العهود والمواثيق والعلاقات الدولية، ليدركوا بغير عناء أن رسالة الإسلام الكبرى رسالة سلام وعمار للعالمين.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg