| 18 مايو 2024 م

أراء و أفكار

"محمد الرسالة والرسول"

  • | الجمعة, 24 نوفمبر, 2017
"محمد الرسالة والرسول"

فصل من كتاب المفكر القبطى نظمى لوقا:

لم يزعم لنفسه صفة أو قدرة أو حقا يستعلي به علي أحد ، أو يرتب لنفسه بها سلطاناً أو تقديما

ولو كان القرآن من صنعه ما حرص أن يكون فيه كآحاد الناس لا يزيد .. ليس عليه إلا البلاغ

(لا دعاء)

من لم يكن صادقا فى دعواه لا يسلم من أعراض الادعاء مهما تصنع الصدق.

وتجتمع أعراض الادعاء فى انتحال صفة أو قدرة أو حق ليس للمرء حقيقته 

وما كذلك كان ابوالقاسم

لم يزعم لنفسه صفة أو قدرة أو حقا يستعلى به على أحد، أو يرتب لنفسه بها سلطاناً أو تقديما.

ولو كان القرآن من صنعه ما حرص أن يكون فيه كآحاد الناس لايزيد.. ليس عليه إلا البلاغ،

عليه البلاغ ولكن أى شىء له؟

لاشىء ثم لاشىء ثم لاشىء

«ليس لك من الأمر شىء»

«فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر»

امرؤ عليه وليس له 

أين ذلك من دعوى الادعاء؟

ولما طولب بالمعجزات لم يتوجه إلى ربه يسأله أن يؤيده بخارقة، بل خوطب مأموراً بما يقول لهؤلاء:

«قل لاأملك لنفسى نفعاً ولاضراً إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء. إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون» (الأعراف)

«قل لاأقول لكم عندى خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم انى ملك.ان أتبع إلا ما يوحى إلى» (الأنعام)

لادعوى ولاادعاء، ولامظاهرة من الخوارق والبوارق، وانما الهداية إلى ما تطمئن به النفس ويستريح به العقل:

«قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون» (الأنعام)

«أفلا تتفكرون»

بحجة الفكر النشط من عقاله تقدم أبوالقاسم إلى الناس، ولا حجة له سوى هذا.، فما هو بصاحب معجزات ولا هو يمنى الناس بخزائن لا يملك مفاتيحها إلا الله، ولا يعدهم بدفع السوء عنهم وهو غير قادر عن دفع السوء عن نفسه، ومن لم ينفعه عقله فى الاهتداء إلى سواء السبيل وتمييز الحق من الضلال لهو أعمى، وما يستوى الأعمى والبصير.. وليس بنافعه اذن خوارق المعجزات.

بل إن هذا الرسول حين وقعت له تجربة الوحى أول مرة وهو يتحنث فى غار حراء صائما قائما يقلب طرفه بين الأرض والسماء، جياش النفس منقطعا عن أهل مكة بما هم منصرفون إليه من الدنيويات والقصف والمتاع الحسى الغليظ، لم يأخذ هذه التجربة مأخذ اليقين، ولم يخرج إلى زوجه خروج الواثق المتلهف على شرفها، بل ظنها أول الأمر رؤى من الجن، وارتعدت فرائصه من الروع، وقد ثقلت على وجدانه تلك التجربة الفذة الخارقة، ودخل على خديجة وكأن به رجفة الحمى فدثرته ونام مطمئنا إلى أمومتها الحانية بعد أن وعدته بالرجوع إلى قريبها ورقة بن نوفل وهو أحد نصارى العرب. واستيقظ محمد فصحبها إلى هناك وقص على الشيخ الكتابى ما وقع له فى الغار من الرؤيا والسماع.. وأطرق الشيخ هنيهة ثم قال لقريبته خديجة:

قدوس قدوس! والذى نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبرالذى كان يأتى موسى.

واطمأن محمد قليلا، ثم تراءى له الوحى وهو فى سنة من النوم فثقل تنفسه وتفصد جبينه بالعرق ونزلت عليه سورة المدثر:

«يا أيها المدثر قم فأنذر. وربك فكبر وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولاتمنن تستكثر . ولربك فاصبر»

ونهض محمد مرتجفا مأخوذا. ورأت خديجة ما به من روع فدعته إلى النوم ليصيب شيئا من الراحة فقال:

«انقضى ياخديجة عهد النوم والراحة. فقد أمرنى جبريل بأن أنذر الناس. وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته، فمن ذا ادعو؟ ومن يستجيب لى؟».

وليس هذا حال دعى يلفق دعوى للناس لايؤمن بها. ليس هذا حال المتصدى لدعوة عن هوى. ليس هذا حال ملفق دجال، بل هذا حال رجل متحرج لايريد أن يصدق ما تراءى له إلا ببرهان ويقين. فقد فوجئ بما وقع له وتولاه الروع والفزع.

هو اذن تكليف لاتأليف.

هو تكليف مر شاق، الست ترى هذا المرفه الناعم فى ظل زوجة هى أشبه بالأم، يقول لها فى حسرة وأسى:

انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة؟

ألست ترى هذا المتحسر المروع حائرا!!؟ لايدرى ما يصنع بهذا التكليف: من أدعو ومن ذا يستجيب لى؟

ما هذا قول مغامر دعى أفاك يلتمس مغنما ويرسم خطة للكسب أو يهتبل فرصة مواتية للظفر. بل هذا قول من يرى نفسه مأموراً بما لايكاد يطيق، والطريق أمامه مسدود، فمن ذا يدعو فى عاصمة الأوثان إلى عبادة الله؟ومن ذا يستجيب له بين سدنة تلك الاوثان؟

وإن هذا الحائر المتحسر لايدرى بعد خطورة ما هو بسبيله شأن من دبر أمراً وبيته بليل وحسب حساب العواقب، وانما هو فارغ الذهن من ذلك كله. لايحزبه إلا من يدعوه إلى ربه ومن يستجيب لتلك الدعوة التى ألقيت على كاهله إلقاء فلما قال له ورقة بن نوفل:

ليتنى اكون حيا اذ يخرجك قومك.اذن لأنصرنك نصراً مؤزرا.

قال محمد متعجباً:

أومخرجى هم؟

فقال له الرجل المجرب المضطلع على تاريخ الأنبياء:

لم يات رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى. وان يدركنى يومك لأنصرنك نصراً الله يعلمه.

«أو مخرجى هم»

كلمة كافية وحدها على خلو باله من غاية الشوط الذى أمر أن يأخذ فيه. وأنه لم يفكر فى ذلك من قبل ولم يعد له عدته. ولم يوازن بين فرص الربح وفرص الخسران وبين جانب الفوز وجانب الخذلان، وبين الثمن الذى يزمع أن يدفعه سواء خذل أو ظهر.

أجل هذه الكلمة وحدها عنوان براءة محمد من تهمة الادعاء والتدبير المبيت لما يزعمه وحيا وتكليفا، لو نظر فيها من له قلب سليم من الأهواء.

وشرع محمد كما أُوحى إليه ينذر عشيرته الاقربين، فآمنت به خديجة فكانت أول المؤمنين. ثم انتظر محمد أن يدله الوحى على ما يفعل لإنذار الناس ومحاجتهم وهدايتهم. فإذا بالوحى يبطئ عليه. حتى ظن أنه كان مخدوعاً فيما تراءى له من قبل. أو أن ربه انصرف عنه بعد أن اصطفاه. وتملكه فزع ووجل،

وطال انتظار الوحى، وهو حائر يتردد بين حراء ودروب الصحراء. واشتد الأمر حتى إن خديجة نفسها - وهى أحفظ الناس لشعوره - قالت له:

«أرى ربك قد قلاك»

وقر ذلك فى قلب محمد، فحزن وكاد يقتل نفسه يأسا وجزعا من قلى ربه له. لولا أن ظهر الوحى ونزلت عليه سورة «الضحى المشهورة».

«والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى، وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث».

عجباً فيم هذا العذاب كله لو كان محمد واضع هذا القرآن، دعيا ملفقا؟ ما كان أغناه عن فضيحة فتور الوحى لو لم يكن أمينا غير متصنع ولأمموه. وانما هو الصدق الصراح بغير تعديل أو تحوير؟

ثم مسالة الروح:

سأله القرشيون خارقة، فقال «إن أنا إلا نذير بشير»

فسألوه عن الروح ما هى؟ فقال لهم:

-أخبركم بما سألتم عنه غدا.

ثم يمضى نيف وأسبوعان ومحمد لايأتيهم بخبر الروح كما وعد، وما عهدوه من قبل مخلفا. ولاسيما وهو اليوم فى مقام التحدى لصدق دعواه.

وما أن يظهر جبريل أخيراً حتى يعاتبه محمد لاحتباسه عنه ويصارحه أنه ساء ظنا لذلك الاحتباس فيكون الوحى:

«وما نتنزل الا بأمر ربك. له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك، وما كان ربك نسيا. ولا تقولن لشىء انى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله.واذكر ربك إذ نسيت. وقل عسى أن يهدينى ربى لأقرب من هذا رشدا. ويسألونك عن الروح.قل الروح من أمر ربى. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».

ما كان أغناه عن هذا الكرب وهذا البلاء.وتعرضه لسخرية قريش وقد وعدهم الجواب غدا، لوكان يملك القول من نفسه، ولم يكن الأمر لربه؟

«وما نتنزل إلا بأمر ربك».

«ولا تقولن لشىء انى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله».

تأنيب واضح، يرد الأمر إلى من بيده الأمر، وما هو بقول دعى، وما هو بمسلك المستقل بشأنه. وإنما هو المأمور، الصادع بالأمر، الصادق أمانة البلاغ المبين.

وما من دعى إلا وهو مطية الشعور بالنقص، فيدفعه ذلك إلى المغالاة فى شأن نفسه، والتزيد فى مدى قدرته 

وما كذلك كان محمد!

مر بقوم على رؤوس النخل، فقال:

«ما يصنع هؤلاء؟».

فقالوا:

«يلقحون، يجعلون الذكر فى الأنثى فتلقح.

فقال:

«ما أظن يغنى ذلك شيئا»

فاخبروا بذلك فتركوه صادعين برأى الرسول، ونقصت غلة النخل ذلك العام وخرج شيصا، فذكروا ذلك له فقال «انما أنا بشر. إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر. أنتم أعلم بأمور دنياكم»!

وقيل إنه قال:

«إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن»!

لم يرتج عليه. ولم يكابر. ولم يسؤه أنه أخطأ الظن. بل اعترف أنهم أعلم بشئون دنياهم. وما هكذا يكون موقف دعى عليه شعور النقص وهو أبين الأمراض التى تنتاب الأدعياء.

وأكثر من هذا:

سمع قوما يختصمون ببابه، فخرج إليهم.واذا به وهو الرسول المسموع المطاع يومئذ يقول لهم:

انما أنا بشر.وانه يأتينى الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضى له بذلك.فمن قضيت له بحق مسلم فانما هى قطعة من النار فليأخذها أو يتركها:

انما أنا بشر أخطئ وأصيب.

تلك مقالة من لايخطر له الادعاء ببال. وانما هو يذكِّر ويذكِّر دواما أنه كسائر الناس. وهكذا الصادق الذى لايشغله تمويه حقيقة ليبدو أفضل مما هو.

وسلام على الصادقين

طباعة
كلمات دالة: محمد رسول الله
Rate this article:
5.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg