| 08 مايو 2024 م

أراء و أفكار

علاء عريبي ..يكتب: النبي وحرية النقد والتعبير

  • | الجمعة, 24 نوفمبر, 2017
علاء عريبي ..يكتب: النبي وحرية النقد والتعبير
علاء عريبي

معظم الحكايات التى وصلتنا من عصر النبوة، توضح بشكل جيد سعة صدر الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبوله النقد بدرجة يحسد عليها، وتؤكد أنه عليه السلام كان كثيرا ما يناقش منتقديه بسماحة، كما أن هذه الحكايات تضع أيدينا بكل وضوح على قدرته عليه الصلاة والسلام على التمييز بين النقد والتجريح، أو النقد والقذف والسب، صحيح أن بعض الصحابة لم يقبلوا نقده عليه السلام، وحاولوا أكثر من مرة الفتك بمنتقديه، لكنه كان يثنيهم ويحمى من انتقدوه ويتركهم يرحلون إلى حال سبيلهم دون أن يمسهم أحد.

حتى إن الصحابة رضى الله عنهم تعلموا منه السماحة وقبول النقد، وعدم الخلط بين الهجاء الذى يدخل فى باب النقد، والهجاء الذى يعد سبا وقذفا.

كتب السيرة والأخبار والشعر حفظت لنا العشرات من الوقائع التى واجه فيه الرسول النقد والتجريح، فى بداية الدعوة وقف له كفار قريش وجادلوه، وانتقدوه، وجرحوه، وسبوه، وتقبل هذا بصدر رحب وظل يدعو إلى الله الواحد الأحد، وعندما هاجر إلى المدينة وبدأت الدعوة تستقر والدولة تظهر أركانها، لم يتغير الرسول، ولم يضق صدره، ولم يأمر بقتل من انتقدوه.

من هذه الحكايات واقعة لأبى عمر (عبد عمر بن صيفى بن النعمان أحد بنى ضبيعة بن زيد، المعروف بالراهب)، ذكرها ابن هشام فى سيرته، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، قبل أن يخرج إلى مكة، فقال له:

ــ ما هذا الدين الذى جئت به؟

ــ قال النبى: جئت بالحنفية دين إبراهيم

ـــ قال: أنا عليها

ــ فقال له رسول الله: إنك لست عليها

ــ قال: بلى، إنك أدخلت يا محمد فى الحنفية ما ليس منها

ــ قال النبى: ما فعلت، ولكنى جئت بها بيضاء نقية

ــ قال ابن الصيفى: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا(يعرض بالرسول)

ــ قال النبى: أجل فمن كذب فعل الله تعالى ذلك به

بعد ذلك انصرف ابن الصيفى آمنا مستأمنا ولم يتعرض له أحد، وقيل، حسب رواية ابن سيد الناس فى عيون الأثر، إنه مات مشركا فى الشام» ولما افتتح الرسول مكة خرج هو إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.

كعب بن زهير

الشاعر كعب بن زهير كان كافرا، وكان يسب الرسول فى أشعاره، ووصل به الأمر أن أرسل لشقيقه «بجير» وكان قد أسلم، قصيدة يسب فيها الرسول، فقرأها شقيقه للرسول، ووصفه بالكذب، بجير كتب لكعب شقيقه يخيفه من انتقام الرسول، ونصحه بالهرب بعيدا، فما كان من كعب سوى أن جاء إلى الرسول، وجلس معه وصافحه، وعفا الرسول عنه، تفاصيل الواقعة حفظ لنا ابن إسحاق، قال: كتب بجير بن زهير بن أبى سلمى إلى أخيه لأبويه كعب بن زهير، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقى من شعراء قريش، ابن الزبعرى، وهبيرة بن أبى وهب، قد هربوا فى كل وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك (محل ينجيك) من الأرض.

وكان كعب قد قال:

ألا بلغا عنى بجيرا رسالة فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا

فبين لنا إن كنت لست بفاعل على أى شىء غير ذلك دلكا

على خلق لم ألف يوما أبا له عليه وما تلفى عليه أبا لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ولا قائل إما عثرت لعا لكا

سقاك بها المأمون كأسا روية فأنهلك المأمون منها وعلكا

قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع: «سقاك بها المأمون» «صدق وإنه لكذوب، أنا المأمون» ولما سمع: «على خلق لم ألف أما ولا أبا عليه» قال: «أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه».

قال: ثم كتب بجير إلى كعب يقول له:

من مبلغ كعبا فهل لك فى التى تلوم عليها باطلا وهى أحزم

إلى الله لا العزى ولا اللات وحده فتنجو إذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت من الناس إلا طاهر القلب مسلم

فدين زهير وهو لا شىء دينه ودين أبى سلمى على محرم

قال: فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه، فقالوا: هو مقتول.

فلما لم يجد من شىء بدا، قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه:

بانت سعاد فقلبى اليوم متبول متيم عندها لم يفد مكبول

إلى أن قال:

نبئت أن رسول الله أوعدنى والعفو عند رسول الله مأمول

لا تأخذنى بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت فى الأقاويل

وقوله:

إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول

فى عصبة من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا

قال ابن اسحاق: ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صلاة الصبح، فصلى مع الرسول، ثم أشار له إلى الرسول قائلا: هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه.. فجلس إليه ووضع يده فى يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال:

ـــ يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن جئتك به؟

ــ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم

ـــ فقال: إذا أنا يا رسول الله كعب بن زهير.

قال ابن إسحاق: فوثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعنى وعدو الله أضرب عنقه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه عنك، فإنه جاء تائبا نازعا.

عامر بن طفيل

حكى ابن قتيبة فى الشعر والشعراء واقعة على قدر من الطرافة، جمعت بين عامر بن طفيل الشاعر وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، توضح كيف كان يتحمل النبى غرور البعض، وعامر(ت 11 هـ) من بنى عامر بن صعصع، أحد فتاك العرب وشعرائهم وساداتهم فى الجاهلية، ولد ونشأ فى نجد، أدرك الإسلام شيخا، فوفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المدينة، بعد فتح مكة، يريد الغدر به، فلم يجرؤ عليه، فدعاه الرسول إلى الإسلام، تخيلوا ماذا كان رد ابن طفيل؟، قال ابن قتيبة: قال للرسول: اجعل لى نصف ثمار المدينة، وتجعلنى ولى الأمر من بعدك وأسلم؟، فقال النبى: اللهم اكفنى عامرا واهد بنى عامر، فانصرف وهو يقول: لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالاً مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا، فطعن فى طريقه، فمات وهو يقول: غدة كغدة البعير، ومرت فى بيت سلولية.

وقال ابن حجر فى الإصابة: مات كافرا، وقصته معروفة، وكان قدومه على النبى وهو ابن ثمانين سنة، فقال له (للرسل) أبايعك على أن لى أعنة الخيل، فامتنع (يقصد الرسول).

بعير بن مرداس

ذكر البغدادى واقعة للشاعر العباس بن مرداس، وكان من المؤلفة قلوبهم، مع النبى عليه الصلاة والسلام، حيث أعطاه الرسول أباعر فرفضها وهاجم الرسول، قال البغدادى فى خزانة الأدب: أسلم العباس بن مرداس قبل فتح مكة بيسير، وأمه الخنساء الصحابية الشاعرة، وكان عباس هذا من المؤلفة قلوبهم، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن الحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعزى، وصفوان بن أمية، وكل هؤلاء من أشراف قريش، والأقرع بن حابس بن عقال، وعيينة بن حصن الفزارى، ومالك بن عوف النصرى، أعطى كل واحد من هؤلاء مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالا من قريش، وأعطى عباس بن مرداس أباعر، فسخطها وقال يعاتب النبى صلى الله عليه وسلم:

أتجعل نهبى ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس فى مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنت فى الحرب ذا تدرا فلم أعط شيئا ولم أمنع

إلا أفائل من حربة عديد قوائمه الأربع

وكانت نهابا تلافيتها بكرى على المهر فى الأجرع

وإيقاظى القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع

فلما أنشد هذه الأبيات بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم، قال: اقطعوا عنى لسانه، فأعطى حتى رضى، وقال سفيان بن عيينة: اتمها له مائة، وقيل إنه قال لعلى بن أبى طالب: اقطع لسانه عنى، فقبض على يده وخرج به، فقال لعلى: أقاطع أنت لسانى يا أبا الحسن؟، فقال على بن أبى طالب: إنى لممض فيك ما أمرت، ثم مضى به إلى إبل الصدقة وقال له: خذ ما أحببت.

أبوعزة

الشاعر أبوعزة الجمحى، من الشخصيات التى اختلف حول حياتها، قيل إن الرسول أمر بقتله لتعريضه بالرسول وتأليبه القبائل ضد المسلمين، وقيل: إن الرسول عفا عنه ومات مشركا فى الشام، وقيل: إنه أصيب بمرض البرص وحاول الانتحار، اسمه عمرو بن عبدالله الجمحى، وكنيته أبوعزة، كان كثير العيال، وقيل إن جميع أولاده كانوا من البنات، وكنى باسم ابنته الكبرى، عاش فى مكة فى فترة الجاهلية، وعندما ظهرت الدعوة الإسلامية ظل على كفره، وقصته ذكرت فى أكثر من موضع، منها: سيرة ابن هشام، والروض الأنف، وطبقات فحول الشعراء، وفتح البارى، والبداية والنهاية، والتلخيص الحبير.

قيل إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال مقولته الشهيرة (الحديث فى: البخارى، ومسلم، وأبوداود، وابن ماجه): لا يلدغ المؤمن من جحر (فى الصحاح: حجر) مرتين، بسبب أبوعزة. فقد وقع أبوعزة فى الأسر يوم بدر ولم يجد من يفتديه، وكان كثير العيال، وقال لسيدنا محمد بعد أسره: من للصبية يا محمد!! فعفا عنه النبى، على أن لا يعود للمشركين مرة أخرى.

فلما كانت معركة أحد خرج مرة أخرى مع أهل مكة يؤلب القبائل على المسلمين فوقع فى الأسر، واقتيد بين يدى الرسول، وكرر على الرسول مقولته الأولى: من للصبية؟، فقال الرسول: النار!!، لا تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين!! فقتل صبرا، قيل قتله على بن أبا طالب وقيل رجل من الأنصار.

ذكر ابن سلام فى طبقات فحول الشعراء: كان مملقا ذا عيال، فأسر يوم بدر كافرا، فقال: يا رسول الله، إنى ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامتن على.

ــ فقال الرسول: على أن لا تعين على، يقصد شعره.

ــ قال نعم، فعاهده وأطلقه، فقال:

ألا أبلغا عنى النبى محمدا بأنك حق والمليك حميد

وأنت امرؤ تدعو إلى الرشد والتقى عليك من الله الكريم شهيد

وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة لها درجات سهلة وصعود

وإنك من حاربته لمحارب شقى ومن سالمته لسعيد

ولكن إذا ذكرت بدرا وأهلها تؤب ما بى حسرة وتعود

فلما كان يوم أحد، دعاه صفوان بن أمية بن خلف الجمحى، وهو سيدهم يومئذ، إلى الخروج، فقال: إن محمدا قد من على وعاهدته أن لا أعين عليه، فلم يزل به، وكان محتاجا فأطمعه، والمحتاج يطمع، فخرج فسار فى بنى كنانة فحرضهم فقال:

يا بنى عبد مناة الرزام أنتم حماة وأبوكم حام

لا تعدونى نصركم بعد العام لا تسلمونى لا يحل إسلام

وزعم ابن اسحاق فى السيرة أن أبا عزة أسر يوم أحد، فقال: يا رسول الله من على؟، فقال النبى عليه السلام: لا يلسع المؤمن من جحر مرتين وقتله، قال ابن سلام فى طبقات فحول الشعراء: ذكرت ذلك لابن جعدية فقال: ما أسر يوم أحد هو ولا غيره، ولقد كان المسلمون يومئذ فى شغل عن الأسر.

قال ابن جعدية: برص أبوعزة بعد ما أسن، وكانت قريش تكره الأبرص وتخاف العدوى، فكانوا لا يؤاكلونه ولا يشاربونه ولا يجالسونه، فكبر ذلك عليه، وقال: الموت خير من هذا، فأخذ حديدة وصعد إلى جبل حراء يريد قتل نفسه، فطعن بها فى بطنه، فضعفت يده، فمارت الحديدة بين الصفاق والجلد، فسال ماء أصفر، وذهب ما كان به، فقال:

لا هم رب وائل ونهد والتهمات والجبال الجرد

ورب من يرمى بياض نجد أصبحت عبدا لك وابن عبد

أبرأتنى من وضح بجلدى من بعد ما طعنت فى معدى

صاحب الكلب

وجاء أخيراً فى طبقات الشعراء مقولة على لسان سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه وأرضاه على قدر كبير من الأهمية يمكن لنا أن نختم بها، حيث إنها تعد خير شاهد على الحرية التى كان الشعراء يتمتعون بها، وتؤكد ما سبق وذكرناه بأن الرسول ومن بعده الصحابة ميزوا جيدا بين النقد وبين القذف والسب، إذ توضح الواقعة أن العقوبة كانت عن القذف والسب فقط، قال: كان الضابئ بن الحارث رجلا بذيئاً كثير الشر، وكان بالمدينة، استعار كلب صيد من قوم من بنى نهشل، يقال له قرحان، فحبسه حولا، ثم جاءوا يطلبونه وألحوا عليه حتى أخذوه، فقال ضابئ:

تجشم دونى وفد قرحان خطة تظل بها الوجناء وهى حسير

فأردتم كلبا فراحوا كأنما حباهم بتاج المرزبان أمير

فأمكم لا تتركوها وكلبكم فإن عقوق الأمهات كبير

فاستعدوا عليه عند عثمان بن عفان، فقال له: ويلك، ما سمعت احدا رمى امرأة من المسلمين بكلب غيرك، وإنى لأراك لو كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنزل فيك قرآنا، ولو كان قبلى قطع لسان شاعر فى هجاء، لقطعت لسانك، وحبسه فى السجن.

طباعة
كلمات دالة: محمد رسول الله
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg