| 09 مايو 2024 م

أراء و أفكار

الدكتور عمار علي حسن.. يكتب: التراث والمبالغة "1- 2"

  • | الجمعة, 8 ديسمبر, 2017
الدكتور عمار علي حسن.. يكتب: التراث والمبالغة "1- 2"
د. عمار علي حسن

هناك اتفاق على أن الشعر كان هو ديوان العرب الأقدمين، إذ فى أبياته الموزعة على أغراض شتى من قبيل المديح والهجاء والرثاء والغرام ووصف الحال وتمنى المآل حملت خصائص المجتمع العربى القديم، وراحت تبثها وتدسها إلى جانب نصوص ومقولات دينية محتفية بالبيان فى حياة العرب المعاصرين، فصار المجاز حاضرا لديهم فى التفكير والتعبير، وانعكس هذا على التدبير.

فالمادح، لاسيما إن كان يفعل هذا لنيل عطاء خليفة أو أمير أو إعلاء شأن القبيلة، والهاجى إن كان يسعى إلى الحط من كل هؤلاء فى ظل الصراع السياسى والأحقاد والضغائن، ومن تأخذه تباريح الهوى، ومن يرثى ميتاً، هو مطالب بأن يذكر محاسنه ويغض الطرف والذاكرة عن مساوئه، يجد كل هؤلاء أنفسهم واقعين فى كل هذا الدروب فى مجال المبالغة عن طيب خاطر، ويزيد على هذا ما للشعر من خصائص فى رسم الصورة والمفارقة والتجاوز والمجاز والتحليق فى الأقاصى، أو الابتعاد عما هو معيش وواقعى وموضوعى وحقيقى، إن كان للحقيقة البشرية وجود محض ومكتمل.

وكان يمكن لما ألقاه الشعر من حمولات ثقيلة على العقل العربى أن يقف عند حد ما كان سائدا فى القرون البعيدة، لكنه لم يفعل هذا، أو يُفعل به هذا، وراح ينداح على طريقة تفكير المعاصرين، التى لم تخل من استدعاء كل ذلك وتمثله، لينسحب على الحياة الاجتماعية والسياسية فى أشكال من التعصب الدينى والمذهبى والقبلى والاستقطاب الاجتماعى والسياسى والثقافى، والنفور من الحوار، والفرار من المنطق، أو عدم التسليم بأن كل شىء نسبى، وأن الحقيقة المطلقة غير موجودة إلا فى مجال الاعتقاد الدينى، ليس لأنها تتسم فى كل الأحوال والأفعال بالإطلاقية، ولكن لأن من يعتقد دينيا يدركها على هذا النحو.

زاد على هذا ما لـ«العرفان» إلى جانب «البيان» من تأثير على طريقة تفكيرنا بما لم يجعل لـ«البرهان» النصيب الأوفر فيما نتصوره، ونسعى خلفه، أو نريد تحقيقه، وهى مسألة استفاض محمد عابد الجابرى فى وصفها وتشريحها وتحليلها فى ثنايا عمله الكبير «نقد العقل العربى».

فالمبالغة القائمة على التهويل تارة، والتهوين تارة أخرى، والبلاغة المحتشدة بها اللغة، بمفرداتها وتراكيبها وجرسها الموسيقى، صارت تدمغ طرائق فى النظر إلى أمورنا الحياتية، أو مشاكلنا التى تواجهنا، وكان حرى بنا أن نفككها عبر تفكير عقلانى منظم، حتى يكون بوسعنا أن نضع الحلول اللازمة لها، التى تفرض الذهاب إلى المعنى من أقرب طريق، وتلمس الحل المباشر دون مواربة، والانخراط فى الواقع بكل ما فيه من أتراح وأفراح حتى يمكن فهم دقائقه وتفاصيله والتعامل معها بمناهج العلم الحديث والمعاصر وأدواته.

وقد يقول قائل إن الأمم الأخرى عرفت فى تاريخها ما كان للعرب من شعر، ومثل ما تداولوه من أساطير، أو حتى خرافات وتهاويم وأوهام، وهذا حقيقى، ولا يمكن نكرانه، لكن لا أظن أن أمة يعيش ماضيها فى حاضرها، ويحدد للمعاصرين النقاط المركزية التى ينطلقون منها، أو الإطار المرجعى الذى يحيلون إليه، مثل أمة العرب، سواء كان هذا الماضى مستدعى فى مساره البيانى أو العرفانى.

فالأمم الأخرى تدرس موروثها وتراثها باعتباره ثقافة الماضى البعيد، التى يجب أن توضع، فى الغالب الأعم، ضمن «تاريخ العلم» أو «تراث المعرفة»، ولا تدعه يسيطر على حاضرها، ويحدد نظرها إلى المستقبل. إذ يرى هؤلاء فيما ورثوه ما يهديهم إلى الطريقة التى كان يفكر بها الأقدمون، والتى نبتت من رحم الظروف الاجتماعية بجوانبها الثقافية والحضارية والسياسية التى كان يحياها من عاشوا فى القرون الغابرة، وليست تلك المادة الاستعمالية التى يجب أن تتحكم فيما يفكرون فيه، ويتصرفون على أساسه، فى حياتهم المعاصرة.

(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى).

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg