| 19 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: الخطاب الديني ودقة واتقان العمل في الإسلام

  • | السبت, 9 ديسمبر, 2017
رجائي عطية.. يكتب: الخطاب الديني ودقة واتقان العمل في الإسلام
رجائي عطية

فى عالم اليوم، الذى تنامى فيه الإنتاج فى كل لون، تناميا هائلا من حيث الكم والنوع والكيف، بات الاتقان والدقة عصب هذا الإنتاج ومفتاح مـا يفرضه قانون المنافسة على الجميع، سواء فى طلب الجودة بعامة، أو فى أفضليات التسويق المحلى والخارجى.. لا يقتصر طلب الدقة والإتقان على عالم الصناعة أو الإنتاج المادى بعامة، بل يكاد يتفق الناس اليوم.. عاملهم وباطلهم.. على أن «الإتقان» و«الدقة» هما قوام كل عمل مادى أو فكرى أو أدبى.. بدونهما يفقد العمل المادى عناصر جودته وإتقانه وتميزه، مثلما يفقد العمل الفكرى والأدبى روحه وجدته وطرافته.. ربما لهذا الاتفاق كانت كلمة «الدقة» ومشتقاتها من أكثر الكلمات شيوعا فى زماننا!

هذا «المطلب»: الإتقان والدقة، سجية إسلامية تأتى فى إطار منظومة كبرى تحترم العمل والعاملين.. العمل الطيب هو حجة الإسلام إلى الدنيا التى أراد لأبنائه أن يكونوا فيها بعملهم فى مكان الريادة تعبيرا عن قيمه الأصيلة وإسهاما مثمرا فى عمارة الدنيا وإثراء الحياة ونفع الإنسان.. لم يقبل الإسلام من المسلم أى عمل من قبيل تسديد «الخانات»، وإنما نبهه إلى قيمته والتفات الخالق عز وجل إليه، فورد بالقرآن المجيد: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة 105).. تلفت هذه الآية أنظار المؤمنين إلى أن عملهم مراقب ومرئى ومشهود.. من الله تعالى ومن رسوله ومن المؤمنين.. فيدل القرآن بذلك على أن المنزلة عنده سبحانه وتعالى هى بالعمل للدنيا والآخرة: «وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» (المطففين 26).. هذا التنافس قوامه الإخلاص والإجادة.. فكان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».. الإتقان هو روح العمل ومهجة الإسلام، وهو المدخل للإجادة وللدقة التى يكاد يتفق عليها الناس عاملهم وباطلهم!

ولكن!.. ما هى الدقة، وما هو الأداء الدقيق صنعاً كان أو تعبيراً، وهـل فى مقدور الإنسان العادى أن يكون دقيقاً فى غير حرفته أو مهنته أو فى غير تخصصه أو فنه؟!

يبدو أن «الدقة» هى أصلاً المطابقة بين تصورنا الداخلى للموضوع والصورة التى نقوم بأدائه بها، وبين نموذج خارجى استوحيناه أو مفترض اتباعه اختياراً أو جبراً، تصوراً وأداءً.. فالدقة تحمل دائماً اهتماماً بالضبط وبالانضباط وبالحساب والمسئولية ولذلك فلا توصف آلام المريض بالدقـة، أو يوصف بهـا غضب المشترى لسوء حالة المبيع، أو حـزن الوالـد على رسوب ولده فى الامتحان، أو استياء الناس من غلاء الأسعار، أو ازدحام الطرقات فى المدينة، أو عدم نجاح الحكومة فى مكافحة تجارة المخدرات أو فشلها فى حل مشكلة المجارى! هذه صور لا توصف بذاتها بأنها دقيقة، وإنما المراد أن يعالج كل منها بدقة، سواء من جانب الطبيب أو الخبير أو المدرس أو الاقتصادى، أو من جانب الاختصاصيين فى مكافحة المخدرات وغيرها مما يتولاه أهل الاختصاص.. لأن هؤلاء جميعاً هم الموكول إليهم العمل والمطلوب منهم فى أدائه أن يلتزموا الحساب والدراسة والضبط والانضباط والمسئولية!

نعم، من حق الإنسان العادى أن يضيق بما يؤدى إليه بغير دقـة وإتقـان.. ومـن الـوارد أو المحتمل أن يتألم وأن يغضب وأن يحزن وأن يستاء، وأن يعبر عن ذلك علناً، لأنه فى النهاية هو الذى يكتوى بعدم دقة أداء الفنيين والاختصاصيين أو بسوء تشخيصهم أو سوء علاجهم وتدبيرهم أو قلة تبصرهم للعواقب أو ضيق أفقهم أو قصور وتخلف معلوماتهـم وأدواتهم ومعداتهم. ولكن لا ينبغى له أن يتجاهل الفـارق بين العـادى وبين الفنـى المتخصص أو المحترف أو صاحـب المهنـة أو الحرفة أو الفن. فالإنسان العادى يحتكم عادة إلى خبراته بشئون الدنيا والحياة وإلى معلوماته العامة، وشكواه مهما بلغت من الحق لا تعتبر تشخيصاً طبياً أو هندسياً أو فنياً أو اقتصاديـاً أو قانونياً أو دستوريا للمشاكـل، ولا يمكـن أن يُبنى عليهـا عـلاج لمتطلبات أو لمشاكـل أو معضلات الأفراد أو الأمة أو الدولة أو للمشاكل الدولية!

إنمـا قـد تطلب الدقـة من الإنسان العادى فى كثير مما يعترض حياته، فيكون مطالبا بالتزام الدقة فى اتباع الأنظمة وتطبيق التعليمات الواجبة الاتباع، وهـذه الدقـة تمضى فى سلاسة وسكون بلا ضجيج.. لا نسمع لهـا صوتاً، لأنه لا يصحبها سمعة أو شهرة مما يجرى وراءه الناس طلبا للصيت أو حبا فى الظهور.. كما لا يصاحبها قيادة أو زعامة محتملـة أو قريبة الاحتمـال ممـا يرنو إليه معظم الناس، بل يصحبها فـى أحيان كثيرة التعرض إذا أفلتت الدقـة لأضرار تتنوع تبعــاً لمـا أعوزته الدقـة فيه، وقـد تبلغ به حد التعرض للجزاءات الإدارية أو للعقوبات الجنائية.. لايستغنى الإنسان العادى عن الدقة فى كل شئون حياته، ويدفع ثمن مفارقتها إذا ما خولفت مثلا تعليمات تعاطى الأدوية بدقة فى مواعيدها الدقيقة المقررة، أو خولفت تعليمات تطعيم الأطفال فى أوقاتها المحددة فى السنوات الأولى من أعمارهم!، أو كما يحصل عند مخالفة الإرشادات الفنية المتعلقة بالمحاصيل والمواشى والدواجن والنحل وغير ذلك من الخسائر والأضرار!!

لا تقتصر «الدقة» مثلما لا يقتصر «الإتقان» على العمل أو الإنتاج المادى، فدقة التعبير «مطلب» أساسى أيضاً فى العلوم والآداب والفنون، بل هى مطلوبة فى الحديث وفى الكتابة، يعترض هذه «الدقة» ما قد يدور فـى أخـلاد البعض أنه حـر فيمـا يقـول أو يكتب من قيود الضوابط أو المسئولية، وهو ظن ظاهره الصحة على اعتبار أن الإنسان يمتلك حرية التعبير كتابة أو شفاهة، ولكنه ليس صحيحاً على إطلاقه، لأن التعبير كتابة أو شفاهة باب واسع يصب فى روافد متعددة، منها ما يمس الشئون العامة التى تهم المجموع، ومنها ما يمس حياة شخص أو أشخاص من حقهم صيانة حيواتهم الشخصية من الاقتحام والتلصص، أو حماية سمعتهـم وعرضهم ومالهم من الإيذاء من رذاذ سوء التعبير متعمدا كان أو غير متعمد.. الدقة مطلوب أساسى حين تمس الكتابة أو القول حياة الأفراد أو الجماعات أو حياة المجتمع بعامة فى حقوق أفراده وحقـوق مجموعه!

ليس كثيرا على الإنسان أن يبذل قدرا معقولا من الاحتياط فى كتابته أو حديثه فى أمثال تلك الأمور الجادة المؤثرة فى حيوات الناس وقوام المجتمع، وليس كثيراً أن يتعرض الجانح الشارد والمشتط للمساءلة حين لا يحتاط لحقوق وكرامات المجتمع والناس، وحين يجاوز المألوف فى الترخص إلى الجموح والشطط وقلة الانضباط التى قد توصف عندئذ بعدم الدقة أو بالتشهير أو بالمساس بالشـرف والاعتبار أو بالطعن على النظـم المقررة أو بانتهاك الآداب أو بترويج الأخبار الكاذبة أو الشائعات أو الأفكار الهدامة!

فموضوع الدقة المطلوبة فى الكتابة أو الحديث هو الاحتياط الواجب العاقل من الوقوع فى الأخطاء المؤذية للغير المفترض فى كل فرد أن يتحاشاها ويتجنب الوقوع فيها، صيانة لحقوق وكرامات الآخرين، وانصياعاً لضوابط المساءلة التى تقوم على إيجاد توازن لازم وحتمى ومطلوب بين الكلمة منطوقة أو مكتوبة، وبين مسئوليتهـا.. المقاييس فى هذه الأمور معيارية كلها، وقد يدق ويصعب التفريق بين المباح وبين غير المباح أو المحظور فى بعض الصور بالنظر لتغير الأذواق والأخلاق والمثل تبعاً لتغير الزمان أو المكان، أو لتطور الجماعة فكرياً ومادياً وشيوع اتجاهات جديدة فيها يجب أن يحسب حسابها فى توقع وعى والتزام الأفراد لتلك المعايير!

الدقـة وإتقـان العمل واجب عام لا يتخصص بعمل دون عمل، ولا بسلوك دون سلوك، ولا بتصرف دون آخر.. وإنما هو طبع عام وسجية مانحة تعطى ثمارها فى كل ما يؤديه الإنسان من عمل ويلتزم فيه واجب الجادة والدقة والإخلاص والإتقان.. هذا الواجب العام لا محل لتخصيصه بلا مخصص، ولا لتقييده بلا مقيد.. وما لنا نقيده ونحاصره بينما التزامه كفيل باستقامة الأمور وتعطير الحياة بقسمات الكمال والجلال والجمال.. سبحانه وتعالى الذى خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا وأكثر جادة وإخلاصا وإتقانا فى عمارة الحياة!

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg