| 29 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

هيثم أبوزيد.. يكتب: في ذكرى مصطفى إسماعيل

  • | الخميس, 28 ديسمبر, 2017
هيثم أبوزيد.. يكتب: في ذكرى مصطفى إسماعيل
هيثم أبوزيد

عين قارئا للأزهر قبل اعتماده إذاعيا.. وطلبه الديوان الملكى لإحياء ليالى رمضان

كرمته لبنان وسوريا والبحرين والأردن وتونس والمغرب وتنزانيا.. ونال أعلى وسام ماليزى.. واستقبله الرئيس التركى فى القصر الجمهورى

موهبته تفرض نفسها على مجتمع القاهرة.. وأعلام الفن يشيدون بطريقته وأدائه

انشغلت مدينة طنطا باستقبال جثمان السيد حسين بك القصبى، الذى وافته المنية فى إسطنبول، وخرج الآلاف فى انتظار القطار الخاص الذى يحمل الفقيد، وبعد الجنازة المشهودة تحدد موعد العزاء، فهمس أحد أقرباء المتوفى فى أذن الصبى المقرئ: تعال لتقرأ مع القراء.. ذهب الفتى إلى السرادق الضخم، الذى توافد عليه أعيان المملكة المصرية، ومن بينهم الأمير محمد على، الوصى على عرش الملك فاروق، وسعد باشا زغلول، وعمر باشا طوسون.. فلما انتهى أول قارئ من تلاوته، قفز الصبى إلى الدكة، ولم يكد يبدأ القراءة حتى صاح الشيخ حسن صبح: انزل يا ولد.. هو شغل عيال؟.. لكن قريبا للقصبى بك تدخل قائلا: هو قارئ مدعو مثلك.. وانطلق الفتى يغرد بالقرآن فأطرب وأبهر.. وكان المحفل أول إعلان بميلاد النجم.

مصطفى إسماعيل.. صاحب الأثر الأكبر فى قراء مصر والعالم، كان فى دولة التلاوة أمة وحده، فليس كمحافله محافل، وليست كلياليه ليال، كيف لا؟ وقد كانت السرادقات تكتظ بالناس، ويمتد الزحام إلى الشوارع، ويأتى المحبون رجالا وركبانا، كلهم يطلب إسعاد نفسه وقلبه بالاستماع لهذا الصوت العظيم الجبار، وهذا الأداء القوى المحكم الفريد.

عام 1905، وفى قرية ميت غزال بطنطا، كانت خبيئة القدر، وهدية السماء، حيث ولد الطفل الموهوب لأسرة ميسورة، وحرص جده على تحفيظه القرآن، فأتمه وهو ابن عشر سنين، لتبدأ مرحلة التجويد والقراءات على يد الشيخ إدريس فاخر، ولا يأتى عام 1917، إلا وقد اكتملت المعجزة، بقارئ قوى قادر متمكن ستمتد رحلته فى التلاوة ستة عقود بتوهج لا يخبو، وصعود لا يتوقف.

ومن طنطا إلى القاهرة، حيث رتبت له المقادير أن يقرأ فى محفل غاب عنه الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، فيستمع إليه العالم الموسيقى الكبير الشيخ درويش الحريرى، أستاذ كبار المطربين فى عصره، فسأله بعد التلاوة: فى أى معهد للموسيقى تعلمت؟ فأجاب: لم أتعلم، وإنما هى الفطرة، فعلق الحريرى قائلا: إن فطرتك أقوى من كل المعاهد.

ولأن الموهبة تخترق كل الحواجز، فوجئ الشيخ مصطفى إسماعيل بطلب الديوان الملكى له ليقرأ القرآن فى شهر رمضان، وأصبح الرجل قارئا للملك وقارئا للجامع الأزهر قبل أن يعتمد إذاعيا، مما أثار حفيظة بعض القراء، لكن صوت إسماعيل كان قادرا على مواجهة كل الصعاب وتذليل كل العقبات.

تتسم تلاوة مصطفى إسماعيل بأنها بناء نغمى محكم، فالشيخ يبدأ القراءة من مقام البياتى، ومن طبقة قرار عميق، ثم يتصاعد على مهل، ليصل إلى جواب البياتى بعد مدة من التلاوة تتجاوز أحيانا 20 دقيقة، وبعد أن يشعر بأنه أشبع مستمعيه من نغمة البياتى، ينطلق فى نزهة مقامية: من الصبا إلى النهاوند، ومن النهاوند إلى الراست، ومن الراست إلى السيكاه، ومن السيكاه إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى العجم.

ولا يكتفى مصطفى إسماعيل باستخدام تلك المقامات الأساسية، وإنما يستخدم فروعها باقتدار، فيلون البياتى بفرع الشورى، والسيكا بالهزام، والعجم بالجهاركاه، والنهاوند بالعشاق، وفى كل هذا يحرص على الإشباع النغمى، والقراءة بكل درجات المقام، من القرار إلى الجواب، مع انتقالات عجيبة، جديدة، سلسة، غير متوقعة.

وصوت مصطفى إسماعيل فى الدرجات العليا (الجوابات) لا يكاد ينتمى إلى عوالم البشر، ويصف الناقد الفنى الراحل كمال النجمى، صوت الشيخ وهو يؤدى مقام راست النوى، فيقول: «يستخدم المطربون من ذوى الأصوات واسعة المساحة مقام راست النوى للانطلاق إلى الأجواء العليا، والتغريد كما يشتهون، وأحسن من سمعناه يغرد فى الطبقات العليا من راست النوى هو الشيخ مصطفى إسماعيل، الذى كان يتفنن فى هذا المقام تفننا يخلب الألباب، ولم نسمع طوال حياته من يدانيه فى هذا الباب إلا أم كلثوم والشيخ محمد رفعت»، ويضيف النجمى: «لقد كان الشيخ مصطفى إسماعيل يمتلك صوتا فذا واسع المساحة، وكانت له حصيلة من العلم بالمقامات لا مثيل لها عند أحد من المقرئين».

وقد ألف النجمى كتابا يؤرخ به لرحلة الشيخ، سماه مصطفى إسماعيل.. المقرئ الموسيقى»، وفيه يصف صوت المقرئ الكبير قائلا: «إن صوته مدرب على القراءة الطويلة.. وكلما ازدادت ساعات التلاوة ازداد صوته قوة وحلاوة ومقدرة وتمكنا وارتيادا لآفاق المقامات حتى جوابات الجوابات، من الديوان الثانى فى السلم الموسيقى الحنجرى، والتى لم يصل إليها صوت إلا صوته ولا يحكمها أداء على الإطلاق إلا أداؤه.. فقد استطاع أن يمزج بين الأحكام والتفسير وعلم القراءات والموسيقى الصوتية والحنجرية مزيجا ارتجاليا مبدعا خلاقا جعل كل مستمعيه لا يستطيعون الإحاطة بموهبته وإبداعاته».

أما الموسيقار محمد عبدالوهاب، فيقول عن مصطفى إسماعيل: «يفاجئنا دائما بمسارات موسيقية وقفلات غير متوقعة، وهو كبير جدا فى موهبته، وكبير فى إدارة صوته، وله جرأة فى الارتجال الموسيقى والصعود بصوته إلى جواب الجواب بشكل لم نعرفه فى أى صوت حتى الآن».

وقد توقف الموسيقار عمار الشريعى بالتحليل مع تلاوة الشيخ لقوله تعالى فى سورة القمر: «فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيونا»، وكيف قرأها مصطفى إسماعيل أولا بمقام الصبا الخالص، ثم أعادها بنفس المقام مع قفلة من السيكاة، مكونا مقام بستنيكار، ويؤكد الشريعى أن هذا الأداء النغمى من الشيخ يؤكد درايته الواسعة بالمقامات العربية وأصول النغم.

أما الكاتب الراحل محمود السعدنى، فيصف صوت الشيخ قائلا: هو أجمل صوت بين المقرئين، بل هو أجمل صوت بين المطربين أيضاً، إن صوته أجمل من صوت عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد قنديل، وعبدالحليم، ولولا أن صوته «يضيع» فى طبقة القرار لكان أجمل وأحلى وأقوى صوت فى الوجود، فليس لصوته نظير فى الطبقات العليا، وهو صاحب طريقة فذة فرضت نفسها على العصر كله، وهو إمام المقرئين باعترافهم جميعا، وشهرته تدوى كالطبل فى جميع أنحاء العالم العربى من المحيط إلى الخليج».

أما إمام القراءات العلامة على الضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية، فيقول عن مصطفى إسماعيل: «إنه كوكب خاص متفرد بين قراء عصره، بمناخه ومحيطاته وعبقه وتضاريس صوته مدا وجزرا وقرارا وجوابا، وتمكنه من أحكام القراءات السبع، وطول باعه فى الاحتفاظ بموهبة التألق، والحضور، مهما طال زمن التلاوة ساعات وساعات».

زار القارئ الكبير كل الدول العربية، كما زار تركيا وإيران وماليزيا وإندونيسيا، وأمريكا وكندا وأستراليا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا، وكان أول قارئ للقرآن تكرمه الدولة المصرية، حيث منحه الرئيس جمال عبدالناصر وسام العلوم والفنون عام 1965 مع أم كلثوم وعبدالوهاب، وطه حسين وفكرى أباظة.

كما نال الشيخ عددا من الأوسمة من الدول العربية والإسلامية، ومنها وسام الأرز من لبنان، ووسام الاستحقاق من سوريا، ووسام الفنون من تنزانيا، كما حصل على أعلى وسام ماليزى، وكرمته البحرين وسوريا والأردن وتونس والمغرب وباكستان التى قرأ فى استادها الرئيسى حتى يمكن استيعاب الجماهير المحتشدة للاستماع له، كما استقبله الرئيس التركى فخرى كورتورك فى القصر الجمهورى، وأهداه مصحفا أثريا مكتوبا بماء الذهب.

ولا ينسى رواد الجامع الأزهر القدامى تلك الأيام، التى كان يحتشد فيها الآلاف قبل صلاة الجمعة بساعات، انتظارا للقارئ الفذ الذى أصبح قارئا للمسجد العريق من منتصف الأربعينات، وحتى رحيله.

مع تقدم السن، كان مصطفى إسماعيل يعوض بخبرته الكبيرة ما طرأ على صوته من وهن، واستطاع حتى آخر تلاوة له أن يبهر الجماهير ويسيطر على المستمعين، رغم أن تلاوته الأخيرة كانت قبيل وفاته بأربعة أيام، حيث تلا قرآن الجمعة من سورة الكهف فى افتتاح مسجد البحر بدمياط يوم 22 ديسمبر، وتوفى بالإسكندرية يوم الثلاثاء الموافق 26 من نفس الشهر.

وكان وداعه يوما مشهودا، وشيعه الآلاف بالتكبير والتهليل إلى ضريحه فى المسجد الذى بناه بمسقط رأسه، وفى القاهرة، أقيم سرادق ضخم بميدان التحرير، توافد عليه كبار رجال الدولة والعلماء والقراء، وتقاطر إليه عشرات الآلاف من محبى الشيخ من كل محافظات مصر، ونقلت وسائل الإعلام العربية والأجنبية تفاصيل العزاء الضخم، وشعور المصريين بالخسارة الفادحة لفقدان هذا الصوت الخالد فى سمع الزمان.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
2.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg