| 28 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

وكيل الأزهر الشريف.. يكتب: القدس.. عربية إسلامية إلى يوم الدين

  • | الخميس, 18 يناير, 2018
وكيل الأزهر الشريف.. يكتب: القدس.. عربية إسلامية إلى يوم الدين
د. عباس شومان .. وكيل الأزهر الشريف

لكل أمة دور عبادة خاصة بها، فللمسلمين مساجدهم، ولليهود معابدهم، وللمسيحيين كنائسهم، وملكية دور العبادة لله عز وجل وليست للبشر وإن بنوها فى أرض تخصهم، فالإنسان وما فى الكون جميعاً ملك لله عز وجل، ومن ثم فإنه إذا خُصص جزء من الأرض ليكون بيتاً لله تعالى عاد إلى مالكه الأصلى وارتفعت عنه ملكية البشر التى هى ملكية اختصاص وليست ملكية حقيقية. ومساجد المسلمين أعظمها ثلاثة، حددها رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - فى قوله: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى».

ومن المعلوم أن المسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة قد قدر الله له أنه لم يقع تحت سيطرة غير المسلمين من تاريخ بنائه إلى وقتنا هذا وإلى أن تقوم الساعة بمشيئة الله تعالى، أما بيت الله الحرام فلم يُكتب له ذلك؛ حيث بنته الملائكة ابتداء ثم أعاد بناءه الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم أتت عليه عصور الجاهلية، ومورست فيه الوثنية، وتزاحمت حوله الأصنام التى احتاجت إلى من يكسرها فى نفوس الناس ابتداءً، بل أن يحطمها كما حطم إبراهيم الخليل أصنام قومه من قبل، فعوقب بالحرق وأُلقى فى النار فعلاً، لكن النار أبت أن تنال منه بل كانت برداً وسلاماً عليه، فكان نبى الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذى دعا الناس إلى عبادة الله وحده، وطهر البيت الحرام مما كان حوله من أصنام، وحرر الناس من بقايا الوثنية وسيطرة الجاهلية على أشرف بقاع الأرض، فأصبح البيت الحرام بمكة المكرمة من وقتها خالصاً للمؤمنين تهفو إليه قلوبهم، وتفد إليه وفودهم من كل فج عميق إلى يوم الدين بإذن الله.

وأما المسجد الأقصى ثالث المساجد المعظمة فى الإسلام، فقد تعاقبت عليه الأيدى، فهو فى أيدى المسلمين تارة وبين أيدى غير المسلمين أخرى، حتى وضع الصهاينة عليه أيديهم الملوثة بالدماء الطاهرة الزكية التى لم تفتأ تهب لنصرته وتخليصه من الأسر الذى طال أمده، لكننا موقنون بأن يوم خلاصه آتٍ لا محالة، فتحرير المسجد الأقصى وعودته للمسلمين خالصاً وعدٌ فى كتاب ربنا لن يتخلف، حيث يقول الله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً»، فعودة الأقصى للمسلمين قضية محسومة لا يخفى علينا إلا وقتها، ولعله قريب إن شاء الله.

وحتى يأتى هذا الموعد الذى لن يتخلف لأنه وعد إلهى غير مكذوب، على المسلمين ألا ينسوا أو يحاول أحد أن ينسيهم أو يلفت أنظارهم بعيداً عن تلك القضية الأهم بالنسبة لجميع المسلمين حول العالم، فالمسجد الأقصى هو أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ونهاية مسرى خاتم الأنبياء وبداية معراجه إلى السماوات العلى، يقول الله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». وعلى المسلمين حول العالم أن يدركوا واقعه الأليم، وأن يعوا جيداً ما يحاك لقبلتهم الأولى التى لا تقل شرفاً وتعظيماً وقدسية عن بيت الله الحرام، فعلى الرغم من أن المؤسسات الدولية والهيئات الأممية تعلم وتشهد وتقر مواثيقها ومعاهداتها بأن المسجد الأقصى مسجد إسلامى عربى تحت الاحتلال؛ فإنهم يغضون الطرف عن انتهاكات المحتل بحقه منذ عقود من الزمان، ولا يتحرك لهم ساكن وهم يتابعون ما يجرى من حفريات لتخريب بنيانه، ومحاولات طمس هويته، وتغيير واقعه، وسعيهم لهدم حائط البراق - الذى يسمونه كذباً حائط المبكى - لتشييد الهيكل الذى يزعمون أنه شُيد عليه، فضلاً عن التضييق على من يريد الصلاة فيه، ومنع فئات عمرية معينة من دخوله، بل إغلاقه فى وجه الجميع مرات متعددة، ناهيك بالاعتداء الآثم على الفلسطينيين وخاصة المقدسيين قتلاً وجرحاً واعتقالاً، كل ذلك يحدث فى صمت مخزٍ من المجتمع الدولى الذى لم يكترث لكل هذه الانتهاكات، ولو أن ما حدث ويحدث من الصهاينة كل يوم على مرأى ومسمع من العالم فى القدس الشريف خاصة وفى الأراضى الفلسطينية عامة، قام بعُشر مِعشاره بعض الفلسطينيين تجاه معبديهودى ولو كان مهجوراً؛ لقامت الدنيا ولم تقعد، ولتحركت الدول الكبرى والصغرى، ولشنت المؤسسات الدولية والهيئات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان حملة لا هوادة فيها على المستوى الرسمى والإعلامى تتهم فيها الإسلام بالتطرف والإرهاب، وتصِم المسلمين بالهمجية والعنصرية وانتهاك المقدسات، وتصف ما حدث بأنه أبشع صور الإرهاب، ولربما تحركت الجيوش لإنقاذ اليهود المستضعفين من أيدى المسلمين الفلسطينيين الإرهابيين!

ومن هذه الانتهاكات التى تمارس بحق المسلمين بشراً وأرضاً ومقدسات، قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى أعلن فيه القدس الشريف عاصمة للكيان الصهيونى الغاصب، ومن ثم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. ولا يخفى على أحد ما شجع ترامب على اتخاذ هذا القرار المتغطرس، فما كان له أن يقدِم على اتخاذ هذا القرار وإعلانه أمام الكاميرات بهذا التحدى والاستفزاز لولا حالة التفكك والتشرذم والهوان التى تمر بها أمتنا العربية والإسلامية على المستويات كافة، فالعلاقات بين معظم دولنا العربية والإسلامية - فى أفضل أحوالها - علاقات باهتة وغير مستقرة، وكثير من منظماتنا وهيئاتنا العربية والإسلامية أقرب للجمعيات الخيرية والبيوت الكبيرة التى تجتمع فيها العائلة وصلاً للأرحام ثم ينفض المجتمعون على وعد بزيارة أخرى! ومثل هذه الحال البائسة تجعل أعداءنا لا يحركون ساكناً لاجتماعاتنا الباهتة، ولا يلقون بالاً لقراراتنا وردود فعلنا التى أصبحوا على يقين أنها ستكون أرحم بهم من بعض بنى جلدتهم الغاضبين من قراراتهم المجحفة وممارساتهم الظالمة.

لقد كان ترامب على يقين أننا الأمة التى قالت عنها جولدا مائير حين حُرق الأقصى عام 1969م: (لم أنم طوال الليل ترقباً لجيوش العرب التى ستأتى إلينا من كل حدب وصوب قبل أن نصبح، فلما أصبحتُ ولم أجد شيئاً أدركت أنهم أمة نائمة)! فما كان ترامب ولا غيره ليجرؤ على اتخاذ قرار أرعن كهذا لو كان يتوقع أكثر من قرارات الشجب والإدانة والاستنكار وبعض صيحات تنديد من متظاهرين هنا أو هناك سرعان ما تختفى ليمر القرار سالما ويضاف إلى غيره من القرارات التى تعبث بمصائر شعوبنا ومقدساتنا، والعجيب أننا نحفظ ونردد صباح مساء قول ربنا: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»!

إن عروبة القدس وإسلاميتها مسألة محسومة تاريخاً وديناً وواقعاً، فنحن الأحق بجميع الأنبياء والمرسلين وليس هؤلاء الصهاينة الذين لا يتبعون نبياً من أنبيائهم الذين يزعمون أنهم هم من أعطوهم الحق فى القدس، فكتاب ربنا يجعلنا أولى منهم بأبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام، يقول ربنا: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياً وَلَا نَصْرَانِياً وَلكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا»، ونحن من أُمرنا بحمل ميراث الأنبياء جميعاً وليس هم، يقول تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، وحتى نبى الله إسرائيل (يعقوب) الذى يدَّعون أنهم ينتسبون إليه لم يلتزموا بعهده الذى أخذه عليهم، فكنا أحق به منهم، يقول تعالى: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَى آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، وقد عاب عليهم ربنا بل كذَّبهم فى زعمهم أن بعض الأنبياء كانوا هوداً أو نصارى، فقال: «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ».

وعليه، فإن القدس قبل قرار ترامب وبعده وإلى آخر يوم فى دنيا الناس عربية إسلامية عاصمة أبدية لدولة فلسطين، وإن ظن الصهاينة ومن يقف خلفهم أن تطاول الأزمنة وتزييف التاريخ وتغيير الواقع سيُنسى العرب والمسلمين قبلتهم الأولى فهم واهمون، وليعوا جيداً أننا قبلنا السلام معهم إيماناً بمبدأ فى كتاب ربنا يقول: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»، وإن عدتم عدنا، فالسلام لمن سالم، أما من اعتدى وأصر على العداء، فإن فى كتاب ربنا مبدأ نؤمن به كذلك يقول: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»، وعلى الدول الكبرى أن تكيل بمكيال واحد فى تعاملها مع قضايا العالم، وألا تفرق بين أتباع دين وآخر، وأن تكف عن الانحياز والدعم المطلق لهذا الكيان الغاصب الذى غرسوه فى بلادنا وعاملوه كطفل مدلل ظلماً وعدواناً، وليعلموا أن ما يحدث بحق المسلمين ومقدساتهم يمثل بيئة خصبة للتطرف والإرهاب الذى يهدد الأمن والسلم فى العالم وليس فى منطقتنا المنكوبة فحسب.

طباعة
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg