| 28 مارس 2024 م

أراء و أفكار

رضوان السيد .. كاتب وأكاديميّ وسياسى لبنانى وأستاذ الدراسات الإسلامية فى الجامعة اللبنانية .. يكتب: لحظة فارقة فى علاقات المسيحية بالإسلام

  • | الإثنين, 18 فبراير, 2019
رضوان السيد .. كاتب وأكاديميّ وسياسى لبنانى وأستاذ الدراسات الإسلامية فى الجامعة اللبنانية .. يكتب: لحظة فارقة فى علاقات المسيحية بالإسلام

خلال ثلاثة أيام (3 - 5 فبراير 2019) كانت أبوظبى عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة محطَّ أنظار بنى البشر، إذ شهدت حدثاً من نوعٍ جديدٍ على منطقتنا العربية والإسلامية، وعلى العالم. فبدعوة بادر إليها الشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبوظبى، قَدِم إلى الدولة والمدينة كلٌّ من البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، رأس الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. ويمكن القول من دون مبالغة بأنها مبادرة لاقت تاريخاً وفتحت آفاقاً على مستقبل آخر للعلاقات بين المسيحية الكاثوليكية والإسلام، وربما مع الديانات العالمية جميعاً. وسأعرضُ السياقات التى تجعل من المبادرة واللقاء ووثيقة الأُخوة الإنسانية حَدَثاً يجب أن يكونَ له ما بعده.

الموافقة الأولى أو اللقاء الأول مع التاريخ والمستقبل أنّ البابا فرنسيس هو بالفعل نمطٌ جديدٌ من البابوات، ما عرفت الكنيسة الكاثوليكية نظيراً له فى شخصيته ورؤيته وتطلعاته وسلوكه منذ المجمع الفاتيكانى الثانى (1962 - 1965). فحتى يوحنا بولس الثانى، بابا «الإيمان والحرية»، والذى كان ودوداً مع المسلمين وضد الحرب على العراق، وعاون الولايات المتحدة فى تجاوز الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو، ما توافرت لديه هذه الروحية الإصلاحية بداخل الكنيسة، ولا هذا التضامن العميق بالفعل مع آلام الفقراء والمعذَّبين فى الأرض، ولا هذا الإحساس الخاص تجاه المسلمين باعتبارهم الأكثر معاناة بين أُمم العالم، كما أنّ دينهم وهو أكبر أديان العالم من حيث عدد معتنقيه، هو الأكثر تعرضاً للظلم، من جانب أهل الديانات الأُخرى، ومن جانب الدول والشعوب الغربية على وجه الخصوص.

والمَعْلم الثانى من معالم شخصيته، ظهر فور انتخابه عندما اختار لنفسه اسم فرنسيس. وفرنسيس من بلدة أسيز بجنوب إيطاليا، هو الراهب المؤسس لرهبنة الفرنسيسكان، وقد عاش فى أواسط القرن الرابع عشر، فأنشأ طائفة الرهبان الجوَّالين، ويُسمَّون أحياناً الشحاذين، الذين يحرصون على ألا يملكوا شيئاً مثل السيد المسيح، وأن يعملوا فى خدمة الفقراء والذين ضربتهم الحروب والطواعين فى ذلك الزمان. وهذه هى الخصيصة الأولى للقديس فرنسيس وطائفته. أما الخصيصة الثانية فكانت إيمانه بإمكان صنع سلام مع المسلمين، والخروج من الحروب الصليبية. ولهذا الغرض تحمَّل مشقة زيارة الملك الكامل الأيوبى سلطان مصر، الذى كان قد عقد هدنة مع الصليبيين وأعاد تسليم القدس إليهم بعد أن فتحها عمه صلاح الدين، وعجز هو عن الدفاع عنها. الأسيزى اعتبره رجل سلام، فزاره وتحدث إليه وأثنى على إنهائه الحروب، ودعاه لاعتناق المسيحية، فيصبح ملك ملوك الشرق، ويعمل مع البابا، ويحفظ بذلك السلام الذى أقامه مع الأعداء الذين يصبحون أصدقاء. وضحك الكامل وقال له: لكنّ بنى قومى يعتبروننى خائناً. ولن يقبلوا أن تبقى أرضهم محتلة، ولذا ستنشب الحرب من جديد، فإذا أردتَ السلام أيها الراهب، فينبغى أن تنصح البابا والملوك بالخروج من ديارنا، ولن يعتدى أحدٌ من المسلمين على قبر المسيح وكنيسة القيامة، وستظلون تحجون بسلام، فقد كانت القدس بأيدى المسلمين لقرون، ولم يمسّ أحدٌ مواطن العبادة المسيحية فيها!

لقد أراد البابا فرنسيس القول بأنه بابا الفقراء والمعذَّبين وجاء لخدمتهم، كما أنه بابا المودة مع المسلمين ومسالمتهم.

أما المَعْلَم الثالث بين معالم شخصيته فهو هذا التوجُّه الجارف لاستعادة العلاقة مع المسلمين، وليس فقط مع المسلمين؛ بل ومع الإسلام. فمجمع الفاتيكان الثانى (1962 - 1965) تحدث غالباً عن المسلمين وأنهم يعبدون الله، وينتسبون إلى إبراهيم. أما البابا فيتحدث عن المسلمين وإيمانهم ومودتهم، لكنه يتحدث أيضاً عن الإسلام باعتباره دينَ إيمانٍ وسلامٍ ورحمة لبنى البشر. ويستشهد على ذلك بالحضارات الكبرى التى أقامها المسلمون، وعيشهم مع الآخرين فى أوروبا وغيرها بسلامٍ ومحبة. أما حروب الماضى، وأحداث الإرهاب فى الحاضر فينبغى أن تصبح دروساً نفيد منها، وألا نظلَّ أسرى الذاكرة الجريحة.

قال البابا ذلك مجتمعاً ومتفرقاً بين العامين 2013 و2018، وفى زياراته للبلدان الإسلامية، وفى الزيارات المتبادلة بينه وبين الشيخ أحمد الطيب. والشيخ أحمد الطيب ناضل بكل قواه طوال السنوات الخمس الماضية لمكافحة التطرف والإرهاب. وأحدث تحولات كبرى فى مسار الأزهر، وهو المؤسسة الهائلة الضخامة والتأثير فى داخل مصر، وفى سائر أنحاء العالم الإسلامى من خلال فروعها المنتشرة فى كل مكان. وقد كان من ضمن نضاله إقامته علاقات متميزة مع البابا فرنسيس (بعد قطيعة مع بنديكتوس، البابا السابق)، ومع أسقف كاتربرى ومجلس الكنائس العالمى. وقبل ذلك: أقام شيخ الأزهر علاقة متميزة بالأقباط المصريين من خلال «بيت العائلة المصرية». وهو شخصية لا تخلو من تحفظٍ ومحافظة (وهو أمرٌ يُحسب له لا عليه عند عامة المسلمين)، لكنه مؤمنٌ أشدَّ الإيمان بالسلام بين الأديان، وأنه يكون عليها بالتعاون والتضامن أن تتدخل للإسهام فى حلّ مشكلات العالم ونزاعاته وحروبه فى المنطقتين العربية والإسلامية بالذات. وبعد عدة إعلاناتٍ وبياناتٍ ونُضج العلاقة الشخصية بين الرجلين، ظهرت فكرة «وثيقة الأخوة الإنسانية» التى لا تخلو بنودها من شبهٍ بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان؛ لكنها هنا قائمة على القيم الدينية والأخلاقية مثل الرحمة والمحبة والانصاف وقبول الآخر ومعاملة البر والقسط، وتقصُّد السلام والأخوة بكل سبيل.

ولنصل أخيراً، وليس آخِراً، إلى إنجاز دولة الإمارات. فقد أعلنت عن عام 2019 باعتباره عام التسامح، وكانت قد خططت للدعوة الكبرى منذ زمن، وإنما كان الأمر ينتظر الانتهاء من كتابة «وثيقة الأخوة الإنسانية». وقد كان المعهود أن يدعونا المسيحيون إلى الحوار، فصرنا نحن الداعين. ثم إنه مع هذا البابا لا تشعر أنك تتحدث إليه مبرراً أو معتذراً عن أفعال الإرهابيين؛ بل تلتقى المرجعيتان الدينيتان الكبريان على قدم المساواة. الاستقبال متشابه. والوثيقة كتبها الطرفان. وتقديمها فى خطابين متمايزين حتى فى الروحية اعتراف بالتعدد الذى لا يمنع التعارف والشراكة. ورئيس الحكومة الاتحادية وولى عهد أبوظبى يصاحبان هذه الرسوم الدالة بجائزة للأخوة للرجلين، وبكنيسة ومسجدٍ على اسميهما، وبقداسٍ هائل للعائشين من المسيحيين على أرض الإمارات يترأسه البابا. وبتأكيد عراقة المسيحية فى الجزيرة وفى الإمارات. كما تأكيد التعددية الدينية فى الدولة، وحريات العقيدة والعبادة. وبذلك تصبح دولة الإمارات نموذجاً للعيش المشترك على مستوى العالم.

لكل الذى ذكرته عن السياقات والمصاحبات، وبالذات عن شخصية البابا، وشخصية شيخ الأزهر، وشخصية دولة الإمارات منذ الشيخ زايد المؤسِّس؛ أعتبر أن هذا اللقاء يشكل لحظة فارقة فى علاقات المسيحية بالإسلام، ورؤية العالم لدولة الإمارات فى طبيعتها وأدوارها وإنجازاتها الحضارية

نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.

طباعة
كلمات دالة: قمة الإنسانية
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg