| 20 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

مختار محمود.. يكتب: الإيمانُ الضريرُ!

  • | الأحد, 7 يوليه, 2019
مختار محمود.. يكتب: الإيمانُ الضريرُ!
مختار محمود

نعمْ.. العنوانُ صحيحٌ وليس سقيماً. فكما أنَّ هناك إيماناً بصيراً، فإنَّ هناك إيماناً ضريراً. وكما أنَّ هناك إيماناً قوياً، فإنَّ هناك إيماناً جباناً، فليس الإيمانُ درجةً واحدةً، بل درجاتٍ تتفاوتُ صعوداً وهبوطاً، ألم يقلْ الرسولُ الكريمُ: «المؤمنُ القوىُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيفِ»؟

الحقَّ أقولُ.. فإنَّ مُصطلح: «الإيمانُ الضريرُ» من إبداع العالم الجليل الشيخ «محمد الغزالى»، الذى عاش بين عامى 1917 - 1996. كان «الغزالى» يتألم لواقع المسلمين، ويخشى على مستقبلهم، وتشهدُ مؤلفاتُه وكتبُه على عدم رضاه عماً آلتْ إليه حالُ المسلمين فى زمانه، وهو ليسَ ببعيدٍ، حتى إنه ذكر فى كتابه: «ركائز الإيمان بين العقل والقلب»، أنَّ كثيراً من القضايا التى تشغلُ قلوبَ وعقولَ المسلمين، يجبُ أن يتمَّ إيداعُها المتاحفَ، وتبقى مجردَ أثر، ليسَ أكثرَ ولا أقلَّ.

آمنَ «الغزالىُّ» بأنَّ كثيراً مما توارثه المسلمونَ من التراث كانَ وبالاً عليهم، بل إنه وصفَ تلكَ الكتبَ بأنها «سفيهة زائغة»، وأسهمتْ فى صناعةِ أجيالٍ خاملةٍ وعقولٍ شائهةٍ، كما سبق العالمُ الراحلُ عصرَه فى المطالبة بإعدام بعض تلكَ الكتب، وتنقيةِ البعض الآخر، والإبقاءِ فقطْ على ما ينفعُ ولا يضرُّ.

وانطلاقاً من هذا الموقف المشهود تجاهَ جانبٍ كبيرٍ من تراث المسلمينَ، لم يجدْ «الغزالىُّ» حرَجاً فى أنْ يصفَ إيمانَ بعض المتدينين بأنه «إيمانٌ ضريرٌ»، يهدمُ ولا يبنى، يكسرُ ولا يُرمِّمُ، يدفعُ الأمة إلى هوةٍ سحيقةٍ من التخلف والرجعية، وكلاهما يصنعُ أجيالاً مُتعاقبة من المتطرفين والمتشددين.. وساءَ أولئكَ رفيقاً.

الإيمانُ الضريرُ- فى رأى «الغزالىِّ»- هو ذلكَ الإيمانُ الذى يخاصمُ الحياة، ولا يُبصرُها، ولا تُسحرُه عجائبُها، ولا تستهويه أسرارُها. هو إيمانٌ جبانٌ، يفرُّ إلى «صومعة»، ويحيا داخل «قوقعة»، لا يجرؤ على الضرب فى الأرض. هو إيمانٌ ذليلٌ يعيشُ فى كنف المبادئ الأخرى. هو إيمانٌ لا يستقيمُ مع منطق صاحبِ الرسالة، صلى اللهُ عليه وسلم، الذى جعلَ اليد العليا خيراً من اليد السفلى، وجعلَ المسلمَ الحقيقى يعطى ولا يأخذُ، وأخبرنا بأنَّ المؤمنَ القوىَّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمن الضعيف.

ينعى «الغزالى» فى هذا الكتاب وغيره، حالَ كثير من المُنتسبين إلى الإسلام الذين تخلَّوا عن عقولهم واستغنَوا عنها، وتعاملوا معها باعتبارها من سقط المتاع، واستسلموا لقديم الأفكار، وقديم الاجتهادات، وقديم التفسيرات، فتحولوا تدريجياً إلى عبءٍ ثقيلٍ على الإسلام، وعلى الإنسانيةِ كلها.

لم يجدْ «الغزالى» حرجاً فى أن ينصحَ بغلق الأبواب والنفوذ أمامَ «التدين القديم السقيم»، وعدم تمكينه من تخريب الدنيا؛ إذ إنَّ «التدينَ ليس جسداً مهزولاً من طول الجوع والسهر، ولكنه جسدٌ مُفعمٌ بالقوة التى تُسعفه على أداء الواجبات الثقال»، على حدِّ تعبير الإمام الراحل.

لا يكتفى «الغزالى» بذلك بل زاد عليه: «التدينُ الذى انكمشَ أمامَ أقدام العلم، وقبع مكانه ساخِطاً على ثمرات التقدم المدنى، لا يستحقُّ -فى نظرنا- أن يُعطى فرصة أخرى لتخريب الدنيا، وشلِّ نمائها»، مضيفاً: «أخطأ بعضُ المتدينين فظنوا أنَّ زكاة الروح لا تتمُّ إلا بدمار الجسد، وضمان الآخرة لا يتمُّ إلا بضياع الدنيا».

وينتهى «الغزالىُّ» من ذلكَ كلِّه إلى نتيجةٍ حتميةٍ هى: «كلُّ تدينٍ يُجافى العقلَ، ويخاصمُ الفكرَ، ويرفضُ عقدَ صُلحٍ شريفٍ مع الحياة، هو تدينٌ فقدَ كلَّ صلاحيته للبقاء، وأهلُ الأرضِ، لا أظنُّ أنهم يَحنِّون إليه بعد ما منحوا نِعمة الخلاص منه، فالتدينُ الحقيقىُّ هو إيمانٌ بالله، وشعورٌ بالخلافة عنه فى الأرض».

إذن.. ما معنى هذا الكلام وما مناسبته، ولماذا أطرحُه الآنَ، وهل يتصادمُ مع طرحناه خلالَ الأسابيع الماضية بشأن من يسمون أنفسَهم «تنويريين»، ويناطحون الإسلام غمزاً ولمزاً، ويتكسبون من وراء ذلك كسباً مادياً كبيراً؟

الإجابة باختصارٍ شديدٍ.. هى أنَّ الإسلامَ لم يعدمْ مِن بين أبنائه المُخلصينَ وعلمائه الثقاتِ، مَنْ يحملُ راية تجديده، ومن يستنهضُ بعضَ المسلمين من كسل عقولهم، ولكن شتان الفارق بين الفريقين، لا يستويانِ مثلاً. فالفريقُ الأولُ لا يبحثُ تجديداً ولا تنويراً، ولا يهمُّه أمرُ الدين من قريب أو بعيد، ولكنه وجد فى هذا الأمر سبيلاً يسيراً للتربح والشهرة، يتكلمُ عن جهلٍ، وسوءِ نيةٍ، يتربصُ بكلِّ شىء، ٍ يُحرِّفُ الكلمَ عن مواضعه، مثلُ هؤلاءِ هم آفة كلِّ عصر، ووباءُ كلِّ زمن.

أما الفريقُ الثانى، الذى ينتمى إليه الغزالىُّ، فهو يتكلمُ عن بصيرةٍ وعلمٍ، مهمومٌ بأمر الدين، صادقُ النية، سليمُ الفؤاد، لا يتكسبُ من وراء ذلك، ولا يغازل عدواً، ولا يتصنع بطولة، ولا يُخرجُ لسانه للناس، ولا يكيدُ لهم كيدَ النساءِ والنائحاتِ المُستاجرات.

إنَّ ما أنتجه «الغزالىُّ» فى هذا السياق، ومَن سبقوه بإحسانٍ، ومن عاصروه ومن جاءوا بعده من أهل العلم والإيمان، لا يجبُ تجاهله والتغافلُ عنه، بل يجبُ البناءُ عليه، واتخاذه مدداً وعوناً لإصلاح أمر الدين والدنيا، وعدم الانسياق وراءَ صغار العقول والنفوس، من الذين فى كل وادٍ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلونَ، ومن ينطبق عليهم قوله تعالى: «إنَّ اللهً لا يُصلحُ عمل المُفسدينَ».. فما أحوجَ الإسلامَ إلى أنْ يكونَ إيمانُ أتباعه إيماناً بصيراً، لا ضريراً!

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg