| 20 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

د. عباس شومان .. يكتب: الجديد في مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد (١)

  • | الأربعاء, 19 فبراير, 2020
د. عباس شومان .. يكتب: الجديد في مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد (١)
د. عباس شومان

عقد الأزهر الشريف مؤتمرًا عالميًّا للتجديد في الفكر الإسلامي في يومي ٢٧-٢٨ يناير ٢٠٢٠م بمركز الأزهر للمؤتمرات بمدينة نصر وأحد فنادق التجمع الخامس، برعاية السيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، وحضور لفيف من علماء المسلمين البارزين من ست وأربعين دولة.

وعلى خلاف غالب المؤتمرات التي تنتهي فور إعلان بيانها الختامي؛ حيث تدخل دائرة النسيان شيئًا فشيئًا حتى يصعب على منظميها تذكر عناوينها، فضلًا عن تواريخ انعقادها؛ جاء مؤتمر الأزهر كاسرًا لتلك القاعدة؛ حيث بدأ الناس يتفاعلون معه قبل إعلان بيانه الختامي، وتحديدًا من لحظة الحوار العلمي بين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر والدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، ذلك الحوار الذي أفرز وجهتي نظر مختلفتين للتجديد، ودون خوض في تفاصيل هذه المداخلة التي أخذت حيزًا كبيرًا من اهتمام الناس وتناولها المتناولون كلٌّ حسب رؤيته ووجهته وربما هواه، فسوف أركز في هذه السلسلة من المقالات على المؤتمر ونتائجه التي يجب ألا تضيع في خضم هذه المعركة التي خرج بها كثير من الناس عن سياقها العلمي الثري والمهم.

لقد تناول المؤتمر العديد من الموضوعات في جوانب عدة تتمثل في محاور فكرية وسياسية وأمن مجتمعي وأسرية، وغيرها. وأتناول في هذا المقال أهم نتائج المحور الأول من محاور التجديد وهو مفهوم التجديد وضوابطه؛ حيث تناولت موضوعات المحور بيان معنى التجديد وضوابط التجديد والمجددين، وانتهت إلى أن التجديد لازم من لوازم الشريعة لا ينفك عنها، وهنا يؤكد الأزهر بوضوح وجلاء رأيه في قضية التجديد، ويرد على المشككين في موقف الأزهر من التجديد، فحين يقول الأزهر في هذا الحشد العلمي لعلماء المسلمين إن التجديد ضرورة دينية، فإنه يعلن بكل وضوح براءته من أنصار الجمود على الموروث وإحاطته بالقداسة المانعة من الاقتراب منه، ويدعو العلماء إلى بذل الجهود التجديدية لتلبية متطلبات العصر وتحقيق مصالح الناس، وبهذا فإن الأزهر لم يترك للتشكيك في موقفه من التجديد محلًّا من الإعراب!

ولا يكتفي الأزهر بذلك، بل يبين للناس رؤيته لكيفية التجديد في الأحكام، وحيث إن الأمور التي وردت فيها أحكام حملتها كتب تراثنا تنقسم إلى قسمين: الأول: الأحكام التي دلت عليها نصوص قطعية الثبوت، وهي تنحصر في الآيات الكريمة من كتاب الله عز وجل؛ حيث إن جميع القرآن قطعي الثبوت بما فيه من آيات الأحكام وغيرها، وكذا السنة النبوية المتواترة، فهي كالقرآن الكريم من ناحية الثبوت، ثم إن هذه النصوص قطعية الثبوت منها ما تكون دلالته على الأحكام قطعية كذلك، ومن ذلك أمور العقائد كوحدانية الله وصدق الرسل وأمانتهم والموت والبعث والحشر والحساب وغيرها من الغيبيات اليقينية، وكذا بعض الأحكام العملية أو الفقهية كفرضية الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتحريم القتل والزنى والسرقة والخمر... إلخ، وهذه الأحكام القطعية ما تعلق بالعقائد منها فلا مساس به ولا تجديد فيه ولا تبديل، وإنما ترسيخ وبيان وتحذير من المخالفة، أما ما تعلق بالأحكام الفقهية فالتجديد فيه يكون في استحداث وسائل البيان والإيضاح والبحث عن العلل للاستفادة منها في إلحاق فروع ناشئة بأحكامها متى شاركتها في العلل المرتبطة بحكم الأصل، وذلك عن طريق القياس وغيره من طرق الاستنباط، أما أحكام الأصول فهي كما هي حتى تقوم الساعة، واللعب فيها عبث وتبديد لا تجديد!

أما النوع الثاني من الأحكام فهو الأحكام الظنية، وبعبارة أخرى الاجتهادية التي اختلف الفقهاء فيها نتيجة ظنية دلالة النص الحامل لها، والذي قد يكون قطعي الثبوت في نفس الوقت؛ فآية الوضوء قطعية في ثبوتها لكونها من القرآن الكريم، ومن الآية أحكام قطعية كغسل الوجه واليدين والأرجل ومسح الرأس، ومنها حكم ظني وهو مقدار ما يمسح من الرأس، وذلك للسياق اللغوي الذي جاء حاملًا للحكم، وهو قوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ»، فقد دل على المسح حتمًا بلا ظن، أما المقدار فهو بطريق الظن لدخول الباء عليه؛ حيث رآها المالكية غير مرتبطة بالمعنى، فيكون المسح لكل الرأس، في حين جعلها الجمهور مرتبطة بالمعنى، وهنا تكون بمعنى البعض، وكلاهما استعمال لغوي صحيح، ولذا يكون القول بمسح الكل أو البعض حكمًا ظنيًّا؛ لأن النص يحتمل الحكم الآخر.

وهذا النوع من الأحكام الظنية الاجتهادية محل للتجديد، فيمكن لعلماء العصر الأخذ برأي غير الذي جرى عليه العمل في العصور السابقة لتغيرات طرأت على أحوال الناس وزمانهم وعاداتهم، وقد حدث هذا في كثير من القضايا التي تعرض لها المؤتمر وسيأتي بيانها. ويلاحظ في هذا الإطار أن هناك بعض المسائل التي اتفق السابقون على حكم فيها، وهو ما يسمى بالأحكام التي سبقت بالإجماع - وهو مصدر من مصادر التشريع - يمكن أن يعاد النظر فيها متى استطاع العلماء في عصرنا إثبات ارتباطها بعلة، وأن هذه العلة قد تغيرت، وقد حدث هذا بالفعل في مسألة في عصر الصحابة؛ حيث نص كتاب الله على سهم للمؤلفة قلوبهم من مال الزكاة، وذلك في قول الله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ»، لكن الصحابة أوقفوا الصرف لهؤلاء في عهد الصديق باجتهاد من سيدنا عمر -رضي الله عنهما - دون إنكار من الصحابة - رضوان الله عليهم - حيث رأوا أن علة الصرف لهم - وهي تكثير سواد المسلمين، أو استمالتهم للإسلام أيهما كانت - قد زالت، فإن كانت العلة تكثير سواد المسلمين تقوية لهم، فقد زالت بكثرة المسلمين وقوتهم، وإن كانت استمالتهم للإسلام، فقد مضى الوقت الكافي لمعرفتهم بالإسلام ومعايشته، فإما أن يكون قد استقر الإسلام في قلوبهم من غير ارتباط بأخذ المال، وإلا فلا رجاء لهدايتهم، وفي الحالين لا ينبغي استمرار الصرف لهم، ولم يمنعهم من وقف الصرف لهم نص كتاب الله تعالى على الصرف لهم، ولا كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم. وهذا نموذج تجديدي متقدم لا يقدر عليه إلا راسخون في علم الشريعة وإدراك علل أحكامها.

ولدينا في زماننا بعض مسائل من هذا النوع تحتاج إلى الاهتداء بهدي هذا النموذج التجديدي، ومنها إجهاض الحمل بعد نفخ الروح فيه إذا كان يسبب خطرًا كبيرًا على حياة الأم؛ إذ الفقه الموروث على عدم جواز إجهاضه بحال، بل بعضهم نص على عدم الجواز حتى ولو كان معترضًا في بطن الأم ولا يمكن إخراجه إلا بتقطيعه! ولعل إجماعهم هذا قائم على معطيات طبية ناسبت مستوى الطب في عصرهم؛ حيث لم يكن ممكنًا إخراج الجنين مع الحفاظ على حياة الأم، أما في زماننا فقد تقدم الطب وبخاصة الولادات القيصرية، ولذا يمكن إعادة النظر في هذه المسألة وأمثالها بعد الدراسة الوافية طبيًّا أولًا، ثم فقهيًّا بعد ذلك.

ويبقى نوع ثالث من الفروع الفقهية، وهو الفروع التي لم يعثر للسابقين فيها على فتوى لعدم ظهورها في زمانهم، وهذه يجتهد علماء العصر فيها لاستنباط حكم لها في ضوء الأحكام المقطوع بها بطريق القياس، أو في ضوء القواعد العامة للشريعة.

وإذا كان ما سبق يوضح كيفية التجديد في الأحكام الشرعية؛ فإنه يبين في نفس الوقت أن التجديد خارج هذا الإطار - وتحديدًا إذا لم يبتعد عن النصوص القطعية في ثبوتها ودلالتها على الأحكام - لا يكون تجديدًا، وإنما هو تبديد وهدم، ولا يمكن أن يحقق مصلحة للناس على خلاف ما يتوهمه من يتفلتون من الضوابط عند إرادتهم التجديد، ولعل أبرز مثال لهذا العبث ما يحاوله دعاة مساواة المرأة بالرجل في الميراث، وقد سبق في مقالات عدة بيان الآثار السلبية على المرأة وإيقاع أكبر ظلم عليها جراء هذه الدعوة؛ حيث يسوون بينها وبين الرجل في أربع مسائل، ويترتب على قاعدتهم هذه ظلمها في عشرات الحالات! فالتجديد المنضبط بقواعد الشرع هو الشرع الذي أرادته شريعتنا لأتباعها، ولذا فهو يحقق مقصد الشريعة التي جاءت لمصلحة العباد، بخلاف المتفلت من تلك الضوابط.

ويظهر مما سبق أيضًا أن عملية التجديد صناعة صعبة ودقيقة لا يقدر عليها إلا الراسخون في علوم كثيرة تتوقف عليها عملية التجديد، ولذا كان من الضروري كما أوصى البيان الختامي للمؤتمر ابتعاد غير المؤهلين عن الخوض فيها. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

*وكيل الأزهر الشريف السابق

 

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
3.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg