| 26 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

محمد السيد صالح "رئيس تحرير جريدة المصري اليوم" السابق يكتب: هكذا رأيت الأزهر في كابول

  • | الأربعاء, 24 يونيو, 2020
محمد السيد صالح "رئيس تحرير جريدة المصري اليوم" السابق يكتب: هكذا رأيت الأزهر في كابول

عنوان بارز، على يمين المانشيت، وفى صدر الصفحة الأولى لهذه الجريدة الرائعة الوقورة «صوت الأزهر»، كان سبباً فى كتابتى لهذا المقال، وأشكر الصديق أحمد الصاوى، رئيس التحرير، على نشره.
«شهيد أزهرى فى موجة عنف بأفغانستان».
قرأت العنوان فقط دون التفاصيل، حيث كانت الصفحة الأولى هى المتاحة أمامى على تطبيق «واتساب».
عاد عقلى ومعه ذاكرتى إلى الوراء عشر سنوات كاملة.
ومع هذه العودة، ظننت أن شهيداً أزهرياً مصرياً هو مَن كان ضحية هذا التفجير الإرهابى الغادر داخل أحد المساجد الكبرى بقلب العاصمة كابول، حيث إننى التقيت حينئذ بعشرة من الدعاة والشيوخ الأزهريين المصريين المبتَعثين لأفغانستان. كنت مبهوراً بثباتهم وقوتهم، وتعلُّق الشعب الأفغانى بهم وبمنهجهم الوسطى. لكننى علمت، بعد العودة لمواقع مصرية وعربية، وكذلك قراءتى لتفاصيل التفجير الآثم فى «صوت الأزهر»، أن الأزهرى المقصود هو الدكتور «محمد أياز نيازى»، إمام وخطيب مسجد الجامع بوزير أكبر خان بالعاصمة كابول، الأستاذ بجامعة كابول، وهو حاصل على الدكتوراه وبدرجة امتياز من جامعة الأزهر بالقاهرة.
بعد استغراقى فى التفكير، وتنظيم الوقائع داخل عقلى، قفزت جملة واحدة لبؤرة تفكيرى، ثم تعدته إلى لسانى لتتحول لجملة منطوقة فى حزن وألم: يا الله، إننى أعرف هذا الشهيد، وصلَّيت وراءه، واستمعت لخطبته، وسجَّلت معه، ونشرت تصريحات منه لصحيفتى.. نعم صلَّيت الجمعة حينها، فى هذا المسجد الذى أعلن تنظيم «داعش» مسئوليته عن تفجيره.
القصة بدأت كالتالى: تلقيت دعوة كريمة من «المركز الدولى للدراسات المستقبلية والاستراتيجية»، فى خريف عام 2010، لزيارة العاصمة الأفغانية كابول، ضمن وفد من الباحثين والخبراء، وبمشاركة ثلاثة من الزملاء الصحفيين، تلبية لدعوة من أحد المراكز الحديثة هناك. الهدف؛ عقد مجموعة من الندوات واللقاءات، التى تركِّز على مجالات مختلفة ترتبط بالعلاقات الثنائية، ودوافع التطرُّف الإسلامى هنا وهناك، والاستفادة من الأزهر الشريف وجامعته العريقة فى نشر صحيح الدين بأفغانستان.
تحمَّست للدعوة وقبلتُها على الفور، رغم تحذيرات من أصدقاء وزملاء بأن أفغانستان غير آمنة، وهناك تصعيد للعنف فى قلب العاصمة، ولا يكاد يمر أسبوع دون وقوع تفجير كبير، يحصد أرواح مسئولين ومواطنين عاديين، وأجانب.
لم يتغير قرارى؛ لأننى كنت واثقاً فى حُسن تدبير وتقدير قيادات المركز، وبالتحديد اللواء أحمد فخر، واللواء عادل سليمان، للأوضاع هناك، وأن الزيارة ستتم فى توقيت فاصل ومهم.
كانت أفغانستان على أبواب انتخابات رئاسية، وكان لديهم برلمان تعددى يضم جميع الأعراق القومية، بعد انتخابات شبه حرة أشرف عليها مراقبون من الأمم المتحدة ومن عدة عواصم كبرى. وكانت حركة طالبان تحاول أن تعطِّل المسيرة، وتُربك المشهد بتفجيرات ومناوشات فى داخل العاصمة وفى أماكن أخرى. فى المقابل، فتحت خطوط اتصال سياسى مع الحكومة المركزية، وكذلك مع واشنطن، فى مشهد شبيه بما يحدث حالياً.
مصرياً، كنت قد سمعت عن محاولات دبلوماسية، ومن بعض الأجهزة السيادية للتقارب والتفاعل مع أفغانستان والقوى السياسية والدينية الفاعلة هناك بشكل أعمق. لدينا سفارة نشطة بالعاصمة، لكن هناك قوى إقليمية وعربية لها تأثير أكبر مما نملكه هناك بكثير، رغم أن رصيدنا الروحى والثقافى أعظم.
أعتقد أن زيارتنا كانت ذات طبيعة استشرافية فى هذا السياق، لكن مسار الأحداث فى القاهرة باندلاع ثورة يناير، بعد عودتنا بشهور معدودة، عطَّل هذا المنهج تماماً
وصلنا كابول فى الثلث الأخير من ذى القعدة. كانت الرحلة مُرهقة جداً، لكن الصُحبة ثرية وغنية بالمعرفة والتجارب والتقارب.. وبالموضوعات الصحفية. لكن أعظم ما حصلت عليه فيها هو التقرُّب من عالم أزهرى جليل هو الدكتور إسماعيل الدفتار، رحمة الله عليه، الذى كان ضمن الوفد المصرى فى الرحلة. كان هادئاً، غزير العلم، يقبل الاختلاف ولا ينسى مكانته ولا مكانة الزى العظيم الذى يمثله، حتى لو كان محاوروه ومجادلوه شيوخاً ينتمون للمذهب الشيعى تمرَّسوا على الجدال الدينى والسياسى.
كان حريصاً فى الندوات التى شارك فيها ضمن الوفد المصرى، أو أُقيمت على شرفه، أن يستهلَّ حواره بسيرة علماء مسلمين تعود أصولهم إلى أفغانستان. وكان لا يبخل فى الثناء على الإمام أبى حنيفة وما قدَّمه للفقه الإسلامى، والذى تعود أصول عائلته إلى كابول، رغم أنه وُلد فى الكوفة ودُفن ببغداد.
فى قربه، سواء فى الشارع أو المسجد أو قاعات الندوات، عرفت قيمة وتأثير الزى الأزهرى التقليدى وصاحبه فى نفوس الشعب الأفغانى، خاصة من الغالبية السنية. نسبة الشيعة هناك أقل من عشرين بالمائة، ولكن نفوذهم متنامٍ بتأثير الدعم الإيرانى، واللغة الفارسية، وهى اللغة الرسمية هناك.
كانت نسبة كبيرة من الحضور تسارع للتبرُّك بالشيخ الدفتار، أو تقبيل يده، أو مجرد التمسُّح بردائه الأزهرى.
نقلت لمسئول مهم فى سفارتنا هناك انبهارى باحتفاء مَن رأيتهم بالعالِم الأزهرى، فقال لى: إن الأفغان يضعون الأزهر وشيوخه فى مكانة رفيعة جداً، وإنه لمس ذلك من خلال ما رصده هو، أو حكاه له الشيوخ المبتَعثون من مصر لأفغانستان. استغربت ما قاله، وسألته: هل لمصر دعاة يعملون على هذه الأرض؟ وأين هم؟ ولماذا لم نسمع عنهم؟
هؤلاء الشيوخ كان عددهم فى ذلك الوقت ثلاثين شيخاً، على ما أتذكر، يعملون فى معاهد دينية، أو بمعاهد لديها علاقات بالأزهر، وبعضهم يعمل فى التدريس بالجامعات هناك.
طلبت منه أن ألتقى بممثلين عنهم. فقال لى إن ثلثيهم يؤدون فريضة الحج كشيوخ مرافقين لبعثة الحج الرسمية، حيث يثق الحجيج الأفغان، والمسئولون أيضاً، فى تعلُّم مناسكهم من شيوخ أزهريين.
التقيت عشرة من الشيوخ المصريين فقط بمقر سفارتنا بكابول. أزعم اليوم أننى لم ألتق بأعظم من هؤلاء فى الثبات والقوة والإيمان بالدعوة وبالأزهر. تحدثوا طويلاً عن تواصلهم اليومى مع الناس بلا خوف، وأن الأزهر ورجاله فى مكانة عليا هنا، وأن جميع الفرقاء لا يختلفون على مكانته.
لمست ما قاله الشيوخ عن الأزهر فى حواراتنا مع القيادات السياسية والبرلمانية للدولة؛ ابتداءً من نواب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان وغيرهم من القادة. لمسته وحدى، خلال زيارتى لقيادات ميدانية وسياسية من حركة طالبان، الذين تمنَّوا، حينها، أن تبادر مصر بثقلها الدينى والسياسى بالتدخل والوساطة فى قضيتهم.
بلغنا يوم الجمعة هناك، فطلب بعضنا تأدية الصلاة فى أحد المساجد بالعاصمة. تحمَّست للفكرة، كنت أريد أن أقترب من الشعب الأفغانى المسلم داخل أحد المساجد، وما بالكم بصلاة الجمعة. مع تَحمُّس الدكتور الدفتار للفكرة حُسم الأمر، رغم أن بعض المنظمين، من الأفغان والمصريين، خافوا علينا؛ لأن الأوضاع الأمنية لم تكن جيدة، بل إن التفجيرات كانت تحيط بنا. كانت هناك حراسة مدججة بالسلاح من أمامنا ومن خلفنا. كانت حجتهم أنه يجوز لنا شرعاً أن نتخلَّف عن الجمعة لأننا على سفر.
مع إصرارنا على الصلاة، اختاروا لنا المسجد الجامع، الذى يقع وسط السفارات الأجنبية، وهو أكثر المساجد تحصناً وبعداً عن التفجيرات حينها. المنطقة التى يوجد بها المسجد تشبه المنطقة الخضراء التى أقامتها القوات الأمريكية وسط بغداد.
وصلنا بعد أن بدأت الخطبة.. وما إن دخلنا ولمح الخطيب، الدكتور أياز، العِمَّة الأزهرية التى كان يرتديها الدكتور الدفتار، إلا وقد غيَّر لغة خطبته للعربية بدلاً من البشتونية، وجعل ما تبقى من الخطبة عن مصر وفضلها على المسلمين فى كل مكان وزمان، وركَّز أيضاً على دور الأزهر وجامعته فى العالم الإسلامى، ومنهجه الوسطى العظيم. ركزتُ فى لغته العربية ومفرداته، لم أسجل خطأً واحداً، كان غزير العلم، قوى الحجة، معتزاً بالأزهر وبفضله عليه.
أدرت معه حواراً قصيراً، بعد انتهاء الصلاة، نشرته عقب عودتى.
رحم الله الدكتور الأزهرى محمد أياز نيازى، ولعنة الله على الإرهابيين فى كل زمان ومكان..
* رئيس تحرير جريدة المصرى اليوم السابق

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
2.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg