| 01 مايو 2025 م

أراء و أفكار

فقيه كردستان الأزهرى.. الدكتور مصطفى الزلمى

  • | الثلاثاء, 31 ديسمبر, 2024
فقيه كردستان الأزهرى.. الدكتور مصطفى الزلمى
أ. د. عباس شومان .. رئيس مجلس إدارة المنظمة العالمية لخريجى الأزهر، وأمين عام هيئة كبار العلماء

إن الحديث عن الدكتور الزلمى -رحمه الله تعالى- هو حديثٌ عن الأزهر نفسه؛ فهو أحد أبنائه النابهين، عاش فى رحابه، وغُذِّيَ بعلومه ومعارفه، وتلقى من أئمَّته وعلمائه، حتى ليرى المتأمِّلُ فى سيرته مدى استفادته ورسوخه فى العلم وتمسكه بالمنهج الأزهرى الوسطى، وإن الحديث عن الدكتور الزملى يستلزم الحديث عن سلسلة من أكابر علماء كردستان؛ حيث لم يكن الدكتور الزلمى الثمرة الوحيدة التى أثمرها الأزهر للعالم الإسلامى من أبناء كردستان؛ حيث خرَّج الأزهر الشريف للعالم من أبناء كردستان العديد من أكابر العلماء، فقد سبقه فى ذلك جملة من كبار العلماء الأكراد، الذين افتخر بهم الأزهر، وافتخروا بنسبتهم إليه، أمثال: الشيخ سعيد النورسى، والشيخ محمد كرد على، والشيخ عبدالكريم المدرس، والصوفى الكبير الشيخ أحمد السُّهرَوَردى، والشيخ محمد الزَّهاوى، والشيخ نجم الدين الواعظ، والشيخ عثمان الجُبارى، والشيخ عمر وجدى، وهو آخر من شغل منصب شيخ رواق الأتراك والأكراد والبغداديين بالجامع الأزهر، إبَّان ثورة يوليو، من عام 1952م.

ولقد مثَّل الدكتور الزلمى بين هؤلاء العلماء حلقةً فريدةً؛ فقد توالت كتاباته العميقة، ومقالاته الرصينة تعالجُ أدقَّ القضايا العلمية فقهاً وأصولاً وتفسيراً؛ وأخذ يحارب الغلو وما يجرُّ إليه من تحريفٍ للحقائق الدينية وانحراف عن جادة الصواب، مستمسكاً بعروة الفهم الأصيل الذى تلقاه من علماء الأزهر الشريف.

لقد أدرك الدكتور الزلمى أهميةَ دورِ الأزهر الشريف وعطائِه لعالمنا الإسلامى عبر تاريخه الذى تجاوز الألف عام، وأن نبوغ الدارسين فيه لم يقتصر على المصريين بل زاحم المصريين علماءٌ تخرجوا فى الأزهر من أرجاء عالمنا الإسلامى جميع، وهذا يدل على صلاحية المنهج الأزهرى وقدرته على تخريج العلماء من مختلف الجنسيات والقوميات، وإن هؤلاء العلماء الذين تخرجوا فى أروقة الأزهر الشريف استطاعوا أن يكونوا هداةً يُبَدِّدُونَ ظلامَ الجهلِ بنور العلم الرصين المستفادِ من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- واجتهادات السابقين من سلفِنا الصالح.

ومن ثَمَّ فقد نهل الدكتور الزلمى من علومِ مدارسَ متعددةٍ، وحصل على أعلى شهاداتِها فهو حاصل على العديد من شهادات الماجستير والدكتوراه من جامعات: بغداد، والقاهرة، والأزهر الشريف، فى علوم الشريعة والقانون، كما ترك لعالمنا الإسلامى ستين مؤلفاً منها ما يتعلق بالمناهج الدراسية وأخرى عامة؛ منها كتب منهجية فى الجامعات العراقية والجامعات العربية، ومنها: ما يتعلق بالقرآن الكريم ومباحثه، ومنها ما يتعلق بأصول الفقه، والفقه، ومنها ما يتعلق بالقانون، والمقارنات بين الشريعة والقانون، ولقد أفاض فى موضوعات تتصل اتصالاً وثيقاً بحياة الناس وواقعهم العملى كالنسخ، ومسائل الأسرة، والتدخين، والميراث والوصية.

ولقد كسر الدكتور الزلمى حاجز التقليد والجمود الذى أصاب مَنْ قَلَّتْ بضاعتهم من العلم، فانطلق يقرر ما أداه إليه اجتهاده فى الدفاع عن شريعة الإسلام وأحكامها، غير ملتفت إلى ثناء هنا، أو ذم هناك، فرفض التقليد المطلق فى الفقه وأصوله، ودعا علماء المسلمين إلى الاجتهاد بما يناسب روح النصوص ومتطلبات العصر، ودعا إلى نظر جديد يعتمد على الأدوات العلميَّةِ والمنطقيةِ، والذى عبر عنه: «بالالتزام الأخلاقى فى العقود والعهود»، معتبراً أن الوفاء بالعقود يجب أن يراعى مصلحة جميع الأطراف وفق تطورات العصر.

ولم يرتضِ الزلمى القولَ بوقوع النسخِ فى القرآن الكريم، وراح يؤكد أن الآيات التى يبدو أنها منسوخة فى ظاهرها، تُفهَم فى سياقها بشكل تكاملى، دون إلغاء لأحكامها السابقة، وهو أحد اتجاهين لعلماء المسلمين فى قضية النسخ، كما اهتم بشأن الأسرة المسلمة، وراح يعالج آثار الاحتقان الذى خلفته تعاليم الحضارة الغربية بين الرجل والمرأة، وأكد ما قرره علماء السلف من أن الطلاق الذى يصدر فى حالة غضب أو تهديد لا يقع، وإنما يُعامَلُ كيمين، وأن الطلاق بلفظ الثلاث يقع طلقة واحدة، وهذه الاختيارات التى تبناها الزلمى إنما هى لحفظ كيان الأسرة وتحقيق مقصد الشرع الذى أراد لها الدوامَ والتأبيدَ، وهو ما يقتضى حمايتها من آثار التصرفات الانفعالية والقرارات غير المدروسة التى تصدر نتيجة اختلال الاتزان العقلى العارض؛ حفظا لشمل الأسرة، ورعاية لمصلحة النشء.

وقد قدَّمَ قراءةً جديدةً للنصوص القرآنية، فذهب إلى رفض التفسير التقليدى الذى يُرجح شهادة الرجل على المرأة، مؤوِّلاً الحالاتِ التى ذُكِرَ فيها تفضيلُ شهادةِ الرجلِ بأنها استثنائيةٌ وليست عامةً، وطرح اجتهادات متعلقة بحقوق المرأة فى الميراث، وقد رأى أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة قد تتطلب اجتهاداً جديداً يناسب العصر.

كما حذر من الغزو الثقافى المغرض، ومع ذلك كان مطلعاً على الثقافة الغربية ومنفتحا عليها، لا يرى بأساً من الاستفادة منها فيما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام ومُثُلِه.

لقد كانت حياة الزلمى جهاداً فى خدمة العلم والدين، ومع رسوخ الزلمى فى العلم ورؤيته الثاقبة، فكل عالم مجتهد يؤخذ منه ويرد عليه، وهذا من الثراء العلمى الذى يرقى بصاحبه ولا ينتقص منه، وما من مجتهد من الأئمة الكبار كالإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان، وبقية أصحاب المذاهب المعروفة وتلامذتِهم، فكثيرا ما اختلف تلامذة أصحاب المذاهب كمحمد بن الحسن وأبى يوسف مع الإمام الأعظم، واختلف تلامذةُ الإمامِ مالك مع شيخهم، وكذا الشافعية، والحنابلة وغيرهم، وبقى الود والتقدير مظلة للجميع؛ ليضربوا لنا المثل فى أدب الخلاف واحترام اجتهاد المخالف وإن كان تلميذا لشيخه، وما أحوجنا فى زماننا هذا إلى السير على نهج سلفنا فى إعمال العقول فى النصوص القابلة للاجتهاد فى فهم مرادها بما يحقق مصالح الناس ويناسب الزمان، وما أحوجنا إلى احترام رأى المخالف حتى وإن لم نأخذ منه، هكذا تعلمنا من سلفنا وهكذا تعلمنا فى أزهرنا الشريف؛ فالقاعدة أن كل مجتهد مصيب.

ومما يدل على تقدير الأزهر تلميذَهُ الزلمى، وأنه يعتز به كأحد علمائه النُّجَبَاء، قرَّرَ فضيلة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، حفظه الله تعالى، تكريم هذا العالم الجليل، فى عام 2013م بالقاهرة، تقديراً لجهوده العلمية الكبيرة، ودورِهِ المؤثر فى نشر الوسطية والاعتدال.

رحم الله الدكتور مصطفى الزلمى وسابقيه وأقرانَهُ، ومَنْ لحِقَ بهم، وبارك فى العلماء الذين يواصلون مسيرتهم من أبناء كردستان.

 

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2025 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg