إنَّ من أهم مقاصد الإسلام، بعد توحيد الله تعالى، العناية بجمع شتات الأجناس فى إطارٍ واحدٍ، ونبذ الفرقة والخلاف فيما بينهم، حتى أفرغ جميع أتباعه فى قالبٍ واحدٍ، هو قالبُ الأمَّة الوسط التى جمعت شتات الفضائل، ونبذت التعصُّب والجدل والخلاف.
ومع أن الإسلام حرص على تماسك المجتمع الإسلامى بكل مكوناته، وقرَّرَ كل الأصول والقواعد التى تحفظ وحدته واستقراره، إلا أن الاختلاف والتنوُّع بين الناس أمرٌ واقع لا يمكن إنكاره، أو الانفكاك عنه، فهو سُنة ربانية، وحِكمة إلهية، وطبيعة بشرية؛ بسبب تفاوت العقول والأفهام، واختلاف الأنظار، وتشعّب الآراء والأفكار، مما تقتضيه طبيعة الإنسان، والأحكام المتغيِّرة بتغيُّر الزمان، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118).
وكما يوجد اختلافٌ محمودٌ يقوم على التنوُّع والتعدُّد، يوجد أيضاً -مع الأسف- اختلافٌ مذمومٌ، وهو اختلاف التضاد والتباين، اختلاف يندرج فى إطار نمط فكرى موروث، يجعل صاحبه يضيق ذرعاً بما يصدر من آراء تُخالف ما يتبناه من أفكار، اختلاف يدعو إلى الفرقة والتحزُّب، والدخول فى خلافاتٍ لا يجنى المجتمع من ورائها إلا التعصُّب ونشر الكراهية بين أرجائه.
لذا، حثَّنا الشَّرع الحنيف على ضبط الخلاف وفقَ قواعد الائتلاف، وأن نرسّخ فى ذهن النشء منذ نعومة أظفاره ثقافة الحوار وشرعية الاختلاف، مما يحول بينه وبين نزعة الغلو والتعصُّب وانغلاق الفكر وجموده على رأى واحد، كما بَيَّنَ لنا أن الأصل فى الخلاف الرحمة والسّعة، إلا إذا دخله الهوى والعُجب وحظ النفس.
فالله أوسع لنا أن نختلف فى فروع الدين، ما دام اختلافنا فى إطار الأصول الشرعيَّةِ، والقواعد المَرعيَّة، وقد اختلف الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب، فما ضرَّهم ذلك شيئاً؛ بل كانوا إخواناً متحابين، ورحم الله الإمام الشافعى حين قال: «ألا يصح أن نختلف ونبقى إخواناً»، اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، لا يعيب أحدٌ منهم رأياً رآه غيره، فكانوا بهذا أقرب فى الوصول إلى الحق والصواب، فبارك الله أعمارهم وحفظها من أن تضيع فى عنادٍ ممقوت، وجدلٍ عقيم، ومراءٍ سقيم، ليس له من باعث سوى التعصُّب للرأى، مهما بَعُد عن الحق.
ولا يمكن لأحدٍ كائناً من كان أن يُشكك فى أن الله خلق الإنسانَ وفضَّله وكرَّمه على سائر المخلوقات، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)، وإن احترام آدمية الناس ومشاعرهم والحفاظ على كرامتهم من القيم الأخلاقية التى دعا الإسلامُ إليها، وحث المسلمين عليها، وحرّم كل ما يخلُّ بتكريم الإنسان؛ حيث جعل السخرية والاستهزاء والهمز من المحرّمات؛ قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ...} (الحجرات: 11).
وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يحقِره، بحسب امرئ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم».
وقد حذَّر النبى، صلى الله عليه وسلم، من بعض صور التنمُّر مثل: خداع الناس المُؤدِّى إلى إخافتهم وترويعهم ولو على سبيل المزاح، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِباً، وَلَا جَاداً»، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ -أى: وَجَّهَ نحوه سلاحاً مازحاَ أو جاداً- فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِماً».
هذا، وقد أمر الإسلام باستغلال التقدّم العلمى للوصول إلى الغاية التى أرادها الله من حياة الناس على الأرض، وهى عبادته تعالى واستثمار ألوان الحضارة والتكنولوجيا المعاصرة فى عمارة الأرض، وتحقيق الاستخلاف المنوط به العباد وفق ضوابط الشَّرع.
ورغم أن مواقع التَّواصل الاجتماعى-التى تُعدُّ أحد منجزات التقدّم العلمى- لها العديد من الإيجابيات مثل تحقيق التواصل الإنسانى، وعرض الآراء والأفكار وتبادل الثقافات، فإن لها مخاطرَ وسلبيات ينبغى الحذر منها وتوقّيها، والتى منها ما يُعرف بالتنمُّر الإلكترونى، الذى يُعدُّ شَكلاً من أشكال الإساءةِ والإيذاءِ والسخريةِ يُوجَّه إلى فرد أو مجموعة أضعف، من قِبِل فرد أو مجموعة أقوى بشكلٍ مُتكرر يُعرِّضهم لمشكلات نفسيَّة واجتماعية تلقى بظلالها على أمن المجتمع واستقراره.
إن التنمُّر الإلكترونى المتمثّل فى إهانة النَّاس، والسُّخرية منهم، والتَّطاول عليهم، والنَّيل منهم بقول أو فعل، فى منشورات مكتوبة، أو فيديوهات مُصوَّرة مِن السُّلوكيات المحرَّمة شرعاً، والمُنافية لقيم الفضيلة والمروءة.
وهذه السُّلوكيَّات يرفضها الدين والمجتمع، وهى تُنافى قيمتى السَّلام وحُسن الخُلق فى الإسلام، وتُشكّل خطراً وضرراً على المجتمع، سيما الضُّعفاء، والأطفال فيه؛ حيث إن الاستهزاء المستمر من شخص، أو خِلْقَتِه، أو اسمه، يسبب له جرحاً نفسياً عميقاً قد يدفعه إلى كراهية المجتمع، أو التخلّص من حياته.
إننا نؤكد أن التنمُّر يُعدُّ أحد الظواهر التى يجب مواجهتها؛ نظراً لما تخلّفه وراءها من الآثار السلبية على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية كافة، وأن الإسلام لم يكتفِ بتوصيف التنمُّر وتحريمه، بل ألزم المجتمع بمحاربته، وتحمّل المسئولية المجتمعية فى مواجهته والقضاء على أسبابه.
وإن القضاء على التنمُّر يتطلب تعاون جميع أفراد المجتمع؛ لوضع الحلول اللازمة للوقاية منه والسلامة من أضراره، كما يتطلب المتابعة المستمرة من الأسرة لأفرادها، والوقوف على سلوكياتهم الخاطئة ومعالجتها، وتقوية الوازع الدينى لديهم، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم؛ بما يساعدهم فى التصدّى للتنمُّر الإلكترونى فى حال تعرّضهم له.
كما يتطلب من المجتمع أن يلتزم بضمان حقوق الأشخاص الذين هم عرضة للتنمُّر، صحياً واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وترفيهياً، ورياضياً وتعليمياً، وتهيئة البيئة المحيطة بهم، ونشر الثقافة الدينية الصحيحة التى تُوجِّه سلوك الإنسان فى تعامله مع الآخرين.
وختاماً يجب أن نؤكد أن الحريَّةَ فى الإسلام منضبطةٌ، حريَّةٌ تبنى ولا تهدم، تحرس الأمن، وتحفظ النفس، وتقيم الحق والعدل، لا تتصادم مع حريات الآخرين، ولا تؤدى إلى الضرر، والفرد مأمور أن يجمع فى اختياراته بين ما ينشده لنفسه، وما يجب عليه للآخرين؛ فالحرية حق فردى وجماعى، والفرد فى نظر الإسلام هو المجتمع، جزء من كلٍّ، يكمله ويكتمل به، يعطيه ويأخذ منه، يحميه ويحتمى به، ولا يوجد فى الإسلام انفصالٌ بين مسئولية الفرد نحو المجتمع، ومسئولية المجتمع نحو الفرد.
هذا، وقد أحاطت الشريعةُ الإسلاميَّةُ الحريةَ بعدة ضوابط لصالح الفرد والمجتمع، وهى حفظ النفس، والعقل، والمال، والعِرض، والدين، وأكدت على أن عدم الالتزام بهذه الضوابط، من الممارسات الخاطئة للحرية التى تهدر مصالح الأفراد والمجتمعات؛ فارتكاب الفرد للمحرمات ليس حريَّة، وإيذاء الآخرين ليس حُرِّيَّة، وتجاوزه أعراف المجتمع، وقوانينه، وعاداته ليس حُرِّيَّة، والتَّمرد على الفَضيلة، والتَّنكر لقيم المُجتمع السَّويَّة بمخطَّطات وحملات مُمنهجة ليس حُرِّيَّة؛ بل فوضى وعشوائيَّة، وإفسادٌ وإِضعَاف للمُجتمعات.
ومن هنا، يجب أن تنهضَ المؤسساتُ الدينيةُ والتعليميةُ والثقافيةُ والإعلاميةُ -باعتبارِها المؤسسات الصانعة للوعى والحارسة لقيمِ وأخلاقِ المجتمعِ- بدورها فى ترسيخ هذه الضوابط؛ لتعزيز الممارسات الصحيحة للحرِّيَّةِ بين أفراد المجتمع كافة والقضاء على كافة أشكال التنمُّر إلكترونياً وغير إلكترونى.