.. وبالنظر إلى هذه التهديدات في مجملها نجد أنها تعتمد على استخدام فيديوهات ذات طابع هوليودي، حيث المؤثرات البصرية والأصوات الخلفية التي تبعث الرهبة، مع عبارات تهديدية ومشاهد ذبح ودماء متناثرة.
صناعة الرعب عند تتار العصر
اقتضت سنة الله في الأرض أن يظل الخير والشر في صراع مستمر وأن يتدافع الحق والباطل إلى قيام الساعة. وقد انتابت العالم حالة من الخوف بعد وصول يد الغدر والإرهاب باسم الإسلام إلى قلب عاصمة أوروبية لإحدى أقوى دول العالم عسكريا وأمنيا، حيث أطلق داعش العديد من التهديدات بعد حادث باريس الإرهابي، والذي أودى بحياة نحو 130 مواطنا مسالما غير المصابين دون تمييز بين مسلم أو غير مسلم؛ ما جعل العالم يأخذ تهديدات هذا التنظيم الوحشي على محمل الجد. وكان من أبرز هذه التهديدات ذلك الفيديو الذي بثه التنظيم عقب هجمات باريس يهدد من خلاله ستين دولة من المنضمين للتحالف الدولي ضدها، من بينها أمريكا وروسيا، وكذلك بعض الدول العربية. مهددا بهجمات قريبة إذا لم يتوقفوا عن دعم أمريكا في هجومها على أراضي "دولته" المزعومة كذلك جاء في تسجيل صوتي لأحد أتباع الجماعة يناشد أذناب داعش: "إذا كان بإمكانكم قتل كافر أمريكي أو أوروبي وبخاصة قتل كافر فرنسي مقيت، أو أسترالي أو كندي أو أي كافر ممن يشنون الحرب علينا فتوكلوا على الله واقتلوهم بأية طريقة".
لقد تحولت تهديدات التنظيم الإرهابي من مجرد عبارات رنانة غير قابلة للتصديق، من نحو "لن تهنأ أمريكا"، و"سنفتح أوروبا" إلى تهديدات حقيقية بتنفيذ عمليات فردية يقوم بها أفراد يعيشون في نفس الدولة التي يقع عليها التهديد، وهي ظاهرة جديدة أطلق عليها اسم "الذئاب المنفردة"، حيث دأبت الجماعة على دعوة أتباعها الموجودين بهذه الدول إلى قتل من استطاعوا من السكان، وذلك بما توفر لديهم من الأسلحة، حتى وإن كانت "سكين مطبخ" وقد نفذ أحداث باريس الأخيرة بالفعل متطرفون ممن يعيشون في فرنسا ويتبنون فكر تنظيم داعش.
ومثلما نفذ التنظيم تهديده لفرنسا، طالت يده الولايات المتحدة الأمريكية بعدما هدد التنظيم الإرهابي بأنها ستكون محل الهجمات التالية بعد فرنسا وأنهم سيستهدفون جميع دول التحالف ضد الإرهاب حيث وقع حادث إرهابي في كاليفورنيا وأسفر عن مقتل أربعة عشر شخصا.
هناك تهديدات كثيرة لم تتحقق بعد، ربما تكون قيد التنفيذ وربما تدخل فقط ضمن الحرب النفسية للتنظيم لتسهم في رسم الصورة التي يسعى من خلالها لإظهار قدرته على الوصول لجميع أنحاء العالم واكتساب صيت أو نفوذ عالمي. فقد طالت تهديداته بلادا عظمى كروسيا التي هددها بتنفيذ هجمات في القريب العاجل وتحويلها إلى محيط من الدماء في فيديو باللغة الروسية، وبريطانيا التي يهددها عودة 60% إليها ممن انضموا إلى صفوف داعش. وإيطاليا التي هددها برسالته "سنفتح روما، ونكسر صلبانكم، ونسبى نساءكم".
كذلك بث فيديو مترجما إلى الإسبانية، كما كان هناك عدة تهديدات تحدث فيها عن دولته التي ستمتد حتى الأندلس. هدد التنظيم الإرهابي أيضا بهجمات في ألمانيا والنمسا، وكذا كندا وأستراليا وبلجيكا حتى يتوقفوا عن قصف المسلمين، وأرسل رسائل تهديد على هواتف بعض المواطنين في السويد يخيرهم بين "اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو قطع الرأس". كذلك امتدت تهديداته إلى الهند ودول أسيوية أخرى، وأصدر فيديو باللغة الأردية يتعهد فيه بتوسيع حربه على الهند، واعتزامه التوسع خارج حدود سوريا والعراق ليشمل الهند وباكستان وبنغلاديش وأفغانستان وعدة بلدان أخرى. أما عن الصين فقد نشر تنظيم داعش مؤخرا أغنية باللغة الماندرينية الصينية يحث فيها المسلمين على حمل السلاح ضد أعدائهم والقتال هناك.
ومن الواضح أن هذا التنظيم من الذكاء بمكان حتى إن تهديداته تصل لدول كبرى تتهم بالتورط في صناعة هذا الكيان الوحشي كما أنه يدفع عن نفسه الاتهام بأنه لا يعادي الكيان الصهيوني الذي يعد العدو الأول للمسلمين، ففي تسجيل صوتي منذ بضعة أيام هدد بشن هجمات على إسرائيل مؤكدا: "لم ننس فلسطين كما يظن الإسرائيليون ولو للحظة واحدة" بالإضافة إلى فيديو تهديد نشر من قبل بالعبرية.
ولم تقتصر تهديدات هذا التنظيم المتطرف عند الدول بل امتدت إلى شخصيات بعينها، كان أبرزها باراك أوباما الذي هدد التنظيم باغتياله، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الحكومة الإسباني فضلا عن تهديداته لرئيستي الأرجنتين وشيلي وتهديداته الصريحة لبابا الفاتيكان بالقتل؛ ووزير العدل الإيطالي الذي أرسل له التنظيم رسالة تهديد مرفقا بها رصاصتين.
أما عن ردود الفعل حول هذه التهديدات، فقد اختلفت من دولة لأخرى، فبينما لم تبد بعض الدول أي تصريحات حول الأمر، أعلن البعض تصريحاته، مثل الرئيس الأمريكي الذي صرح بأن الولايات المتحدة لن تترك كائنا من كان ليرهب مواطنيها، فيما أكدت بريطانيا أن قوات الأمن بها تعمل بأعلى كفاءة لها، والمكسيك التي جاءت ردود الفعل بها ما بين إعلان الحكومة على وجل أنها تعتبر هذه التهديدات جدية، وبين سخرية المواطنين، وكذلك تناولت رئيسة الأرجنتين الأمر بالسخرية. فيما أعلنت دول أخرى اتخاذها احتياطات إضافية ورفع حالة التأهب كأستراليا، وبلجيكا وإيطاليا؛ وأكدت الحكومة الكندية على مواصلة العمل مع حلفائها لدرء خطر داعش.
وبالنظر إلى هذه التهديدات في مجملها نجد أنها تعتمد على استخدام فيديوهات ذات طابع هوليودي، حيث المؤثرات البصرية والأصوات الخلفية التي تبعث الرهبة، مع عبارات تهديدية ومشاهد ذبح ودماء متناثرة.
كما أن تعمد داعش استخدام نفس لغة الدولة –في أغلب الحالات- وبلسان من يتحدثونها بطلاقة تدل على أنها لغتهم الأم -مستغلا وجود أتباع له من 86 دولة حول العالم- يعكس رغبته في التأثير على الشباب في تلك الدول، إضافة إلى بث الرعب في نفوس الشعوب من خلال التأكيد على أن لديه أتباعا من مختلف دول العالم.
وربما لا نجد لفكر داعش المنحرف الذي يتفنن في صناعة الرعب مثيلا في تاريخ البشرية كلها سوى في رسائل التتار. فرسائل داعش ليست سوى استنساخ لرسالة زعيم التتار هولاكو لمظفر الدين قطز، والتي جاء فيها: (إنا نحن جند الله في أرضه .... فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد .... وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع).
إن هذا التنظيم الإرهابي قد طغى وأفسد في الأرض ولم يعد هناك بد من تضافر الجهود الدولية لتخليص العالم من شره. ولا ينبغي أن نغفل أن القضاء على كيان وحشي كتنظيم داعش لا يعني أن ينعم العالم بالأمن والسلم، فلم يكد العالم يطمئن إلى انكسار تنظيم القاعدة حتى استيقظ على خطر جديد يُدعى "داعش" بل ربما ظهر غيره من التنظيمات الأشد تطرفا.. إن الحماية الحقيقية تكمن في إعداد جيل من شباب المستقبل على درجة من الوعي والحكمة يستطيع أن يتفهم معاني الخير والحق التي تتبناها كل الأديان ولو كانت غير سماوية، وأن يدرك الجميع جيدا أن كل قتل أو عنف باسم أي دين ما هو إلا ستار لتحقيق مصالح أخرى؛ فاستئصال الفكر المتطرف أبقى من الاكتفاء باستئصال جماعة متطرفة.
إن لغة التهديد التي نراها في رسائل داعش للدول والقادة والمواطنين الآمنين والتي تهدف إلى بث الرعب في نفوس البشر غير معروفة في تاريخ الحضارة الإسلامية، التي ما أرسل معلمها وهاديها إلا رحمة للعالمين؛ والذي عندما أساء أحد اليهود الأدب في حديثه معه، فعنفه عمر بن الخطاب وهدده. ابتسم النبي صلى الله عليه وسلم في سكون وتؤدة، ثم قال: (يا عمر! أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب يا عمر! فأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً جزاء ما روعته). ليعلمنا أن الإسلام لا يقبل بتخويف المواطنين الآمنين على اختلاف دينهم.
بل إن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم شدد على إنكار التهديد بالسلاح ولو بالمزاح، حيث قال (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي) وكيف لا والإسلام يدعو إلى التعايش السلمي؛ دين يعظم قدر الأمن ويعتبره أحد مقومات الحياة الرئيسة، حيث يقول المصطفى:) من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها)، دين يوجب العدل مع المسلمين ومع غير المسلمين، حتى لو لم يكونوا معاهدين أو مستأمنين أو أهل ذمة، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
* وحدة رصد اللغة الإسبانية