ألقى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر كلمته بالنسخة الاستثنائية من ملتقى «مغردون» الذى تطلقه مؤسسة ولى ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز «مسك الخيرية»، وذلك بحضور عدد من كبار العلماء وزعماء الدول وقادة سياسيين ودبلوماسيين وشباب إلى جانب مفكرين وصناع رأى فى مجال مكافحة الإرهاب من أكثر من 40 دولة، بالإضافة إلى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
وأشاد الإمام الأكبر بمُؤسَّسَة «مِسْك الخيرية» حيث أنها أمسَكَت برأسِ الدَّاء ووضعته على طاولةِ البحث، وأخضعته للتفكيك وسَبرِ الأغوار وطرح وجهات النَّظَر، من مختلف الزَّوايا وتبايُن الآراء والأنظار.
وأعرب الطيب عن سعادته أمَّا بالمشاركةِ بالملتقى، مؤكدا أنَّ عِلَّة العِلَل وأصل الدَّاء فى أُمَّتنا العربيَّة والإسلاميَّة، هو نسيانُها الدَّائِم المُتكرِّر- عن قصدٍ أو غير قصد - لكتابهم الإلهى الكريم، الذى صنع منهم أُمَّة واحدة قادَت العالَم وأنارته وعلَّمَته قِيَم العدل والأخوَّة والمُساواة، وكيف يمتلكُ عناصر القُوَّة الماديَّة والمعنويَّة..
فى هذا الكتاب المبين؛ الذى هو حُجَّةُ الله على المسلمين فى الدنيا والآخرة، آيةٌ مُحكَمةٌ صريحةٌ تَنهَى المسلمين والقائمين على أمورهم، ومن بينهم: العُلَماءُ الذين هم ورَثَةُ الأنبياء، تنهاهم جميعاً عن التنازُع والتفرُّق والاختلاف، وتحذِّرهم من الفشلِ والوَهْن والهوان الذى ينتظرهم كنتيجةٍ حتميَّةٍ مؤكَّدة، إن هم خرجوا على هذا «القانون الإلهى» الذى عرفت قِيمتَه أمم أخرى استعصمت به وتوحَّدت مصالحها الكُبرى من حولِه رُغمَ تباينهم: لُغةً وعِرقاً وثقافةً ومذهباً.. هذه الآية هى قوله تعالى: «وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» الأنفال: 46.
وتساءل الإمام الأكبر: هل نجد لهذه الحُروب التى تأكلُ الأخضـر واليابسَ من سببٍ غيرَ التَّنازعِ وما أدَّى إليه من فشلٍ وذهابِ رِيحٍ حذَّرنا منهما القُران الكريم؟ ولننظر كيف أنَّ الحربَ العالميَّةَ الأولى لم يَزِد عُمرها على سنواتٍ أربع، والحَربَ العالميَّة الثانية بدأت وانتهت فى غضونِ سنواتٍ سِتٍّ.. فكم من سَنَةٍ مضت الآن على الحرب التى اندلعت فى منطقتِنا ولم يَخْبُ لها أُوَارٌ حتى الآن، وكلما أَوشَكَت أن تكون وميضاً بُعثت من جديدِ لتكون أذكَى ضِراماً مِمَّا كانت عليه.
وإنه وإن كانت الفُرقة هى أصلَ الدَّاء وعِلَّتَه؛ فإنَّ أمانةَ الكَلِمَة تستوجِب أنْ أضم لهذا السَّبب سببا آخر يَستغلَّ جَوَّ الاختلاف أسوأ استغلالٍ، وهو: الأطماع العالميَّة والإقليميَّة التى لاتزال تُفكِّر بعقلية المُستَعْمِرين، أو عقلية الحالمين باستعادة ماضٍ قام على نزعة التغلب العِرقى والتَّمدُّد الطائفى، وإن كانت هذه الأطماع المريضة مما لا يُقرّها الدِّينُ ولا الخُلُق الإنسانى، وتأباها المواثيق الدوليَّة، ويرفُضُها شُرفاء العالَم المتحضِّر وحكماؤه.
وأشار شيخ الأزهر إلى أن هذا الدَّاءَ الذى أُصيبت به الأُمَّة أخيراً، وأَطْمَعَ فيها أعداءها والمتربِّصينَ بها، لم يُؤتِ ثماره المُــرَّة فقط فيما تركه من تقهقُرٍ وتخلُّف على كافة الأصعدة، وإنما كان له تأثيرُه البالِغُ السُّوء فى فهم شريعة الإسلام واضطراب هذا الفهم فى أذهان الناس، وبخاصةٍ الشبابَ منهم، هذا الأثرُ الذى تبلورَ أخيراً فى ظاهرة الغلو والتَّشدُّد والتطرُّف، ثم الإرهاب - الذى استطاع بكلِّ مَرارة وألم - أن يُقدِّم هذا الدين الحنيف للعالَم فى صُورة الدين المتعطش للقتل والذبح والدماء، وبصُورةٍ همجية وحشيةٍ لم يعرفها من قَبلُ تاريخ المسلمين الذى بلغ عُمرُه الآن ما يَقرُبُ من خمسةَ عَشَر قَرناً من الزمان، ولو أن أعدَى أعداءِ المسلمين أراد أن يَكِيدَ للإسلام وينفِّر منه ويصدَّ الناس عنه لما استطاع أن يَبلُغَ عُشْـَر مِعشارِ تأثيرِ صورة واحدةٍ من صور الذبح والقتل والتفجير فى الآمنين، والتى تبثُّها بعضُ سائل الإعلام والتواصل الاجتماعى عَمداً وإصراراً على تقديم دينِ الرحمة للعالَم فى هذه الصورة البشعة المنفِّرة، وأنها الصورة التى يَجبُ على العالَم الآن أن يتصوَّر الإسلامَ من خلالها، ووراءَ ذلك من خيانة التاريخ والافتراء على الحقِّ والانصافِ ما يكون عادةً وراءَ الأكَمَةِ عادةً من أيادٍ خفيَّةٍ تَعبثُ بمصائر الشُّعوب ومقدِّرات الأوطان.
وحذر فضيلة الإمام من أن موجةً عاتية من ثقافة الكراهية غَزَت عقولَ بعضٍ من شبابنا المُغرَّرِ بهم، وهيَّأتهم لتنفيذ خطَّةٍ خبيثةٍ أُحكِم نَسجُها فيما وراء البحار، بعد ما وَجَدَت فى سياسات التَّعليم ومُخرجاتِه فى بلادنا منافذ أو نقاط ضعفٍ نفذوا منها إلى تجنيد هؤلاء فى يُسْـرٍ وسهولةوحولأزمة التعليم فى عالمنا العربى والإسلامى، قال إنه تعليمٌ سمحت بعضُ مناهجه بالتوقُّف عند التراكمات التاريخية لنزعات الغلوِّ والتشدُّد فى تراثنا، والتى نشأت من تأويلاتٍ وتفسيراتٍ منحرفة لبعض نُصُوص القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة وأقوال الأئمة، أستُغِلَّت فى فَرزِ عقائد الناس وتصنيفهم لأدنى سبب أو ملابسةٍ، ودفعت أصحاب الفهوم المعوَجَّة إلى أقوال فقهية وعقدية قيلت فى نوازل ارتبطت بفترة زمنية معيَّنة، واتخذوا منها نصوصاً محكمةً وثوابتَ قطعية تُحاكى قواطع الكتاب والسُّنَّة، وجعلوا منها معياراً للتبديع والتفسيق ثم التكفير، وقد رأينا جماعاتهم يجترئون فى اندفاع أهوج، وجهالة عمياء على تكفير الحُكَّام وتكفير المحكومين لأنهم رَضُوا بحُكَّامهم، وكذلك يُكفِّرون العلماء لأنهم لا يُكفِّرون الحكام، وهم يكفرون كلَّ من يرفضُ دعوتهم، ولا يبايع إمامهم، وكلَّ الجماعات التى لا تنضم إليهم «وقد اعتبروا كلَّ العصور الإسلامية بعد القرن الرابع عصورَ كُفرٍ لتقديسها لصَنَم التقليد المعبود من دون الله».. ولست فى حاجة إلى تسليط الضوء على العلاقة الوُثقى بين مذاهب التكفير وبين ثقافة الكراهية ورفض الآخر وازدرائه.
لافتا إلى أنه زاد من نشر هذه الثقافة الكريهة استغلالُ هذه الفئة الضالة التقدم التقنى الهائل فى ترويج أفكارهم المسمومة بين الشباب، وبأساليب مدروسة تُغرى ضحاياها بالارتباط العقلى والعاطفى ثم بالانخراط السلوكى والعملى..
مضيفا فضيلته أن القراءاتِ الخاطئة لهذا الفكر التكفيرى، والتباطؤَ فى إدانته إدانةً حاسمةً، كلُّ ذلك ساعد على استفحال هذا الوَباء وانتشاره بين الشباب..
ومع كلِّ ذلك فلا أزعمُ أن النَّفَقَ كلَّه مُظلمٌ من أوَّله إلى آخرِه، فهناك العديد من نقاط الضوء والأمل، إن صحَّ العزم وخلصت النوايا واتحدت الكلمة وتوحَّدت المصلحة..
وإذا كنا قد اتفقنا على أن هذا الشباب إنما اختطف من بين أيدينا للأسباب التى ذكرناها، فعلينا أن نعترف فى جِدِّية وشجاعة بوجوب إعادة النظر فى التعليم ومناهجه بمختلف مراحله، وهذا يتطلب تنسيقاً جادًّا بين مسئولى مؤسسات التعليم الدينى ومسئولى التربية والتعليم والجامعات، والثقافة والشباب والرياضة، لوضع استراتيجية تعليمية متكاملة يُقدَّم فيها الدِّين فى الصورة التى أرادها الله له: هُدًى ورحمة وتيسيراً للناس ورفعاً للحرج عنهم، وإرساءً لمبدأ حُرمةِ الدِّماء، وعصمة الأموال والأعراض، وترسيخاً لقيم الأخوة والتسامح.
وأشار إلى أننا إذا كُنَّا قد اتفقنا أيضاً على خطر الاستغلال السيئ لوسائل التواصل الاجتماعى فى هذه الأزمة، فقد آن الأوان لنفكر جميعا للبحث عن وسيلة توقِفُ هذا الإغراق التكفيرى والمذهبى والطائفى والذى يسبح فى الفضاء الإلكترونى بلا ضابط ولا رابط، وتردعَ التسابق المحموم فى إفساد الشباب، وتمنع المدّ التخريبى الذى يمهِّد لسياسات الاستعمار الجديد ومشاريع التقسيم والتجزئة وإذلال الشعوب.
وألمح إلى أن الأزهر الشريف قد تنبَّه لهذا الخطر المحدِق بشباب الأمَّة؛ فأنشأ مرصدا إلكترونيا لمكافحة الفكر المتطرف، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وتحصين الشباب من ثقافة العنف والكراهية، ويعملُ به أكثرُ من مائة باحث من شباب الأزهر، يبثون رسائلهم بإحدى عشرة لغة، وذلك فى إطار استراتيجية جديدة تستهدف توظيف كافة وسائل الاتصال الحديثة فى التصدى للفكر الإرهابى.
وفى ختام كلمته بعث الإمام الأكبر برسالة إلى شباب الأمّة أن يَستمسكوا بإسلامهم الذى يحترم إنسانية الإنسان، ويحرم القتل ويصون العِرض، ويعتزوا بنبيهم الذى أرسله الله رحمة للعالمين، وأخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس: إنما أنا رحمة مهداة».
مضيفا: اعلموا أيها الشباب أن الناس ينبذون الأديان ويكفرون بها حين يشيع فيها الغلو والتطرف، وحين يكون القتل أداة التعريف بها، وأسلوب الدعوة إليها، واعلموا أن المتطرف والإرهابى هما أسرع الناس مروقاً من الدِّين، وأن الساعين فى هدم الأوطان سيلعَنُهم التاريخ، وأنهم سيذهبون وتبقى الأوطان شاهدة على انحرافهم..
واعلموا أن سبل نشر الإسلام حددها القرآن الكريم فى الحكمة والموعظة الحسنة، والحوار بالتى هى أحسن، وليس بالأحزمة الناسفة والمتفجرات.
وخاطب الطيب كل شاب قائلا: كن سيِّد نفسك ولا تكن عبداً لما تتلقاه من وسائل التواصل الاجتماعى من أباطيل وأضاليل.. واعلم أنك مسئول يوم القيامة عن «عقلك»: هل ميَّزت به بين الحق والباطل، أو رهنته لآخَرين يعبثون به كما يريدون ووقتما يشاءون..
مذكرا قادةَ «القمة العربية الإسلامية الأمريكية» التى تزامنت مع وجود فضيلته بالمملكة العربية السعودية بأن شعوب المنطقة التى مزقتها الحروب، وشرَّدت أهلَها فى الفيافى والقفار، وبدَّلت أمنهم رُعبا وفزَعا، وأذاقتهم مرارةَ اليُتمِ والثُّكْلِ والترمُّل وأورثتهم فقرا ومرضا وجوعاً تشريداً، هذه الشعوب تنتظرُ من هذه القمة التاريخية قراراتٍ حاسمة، تقضى على الإرهاب وتجفِّف مصادره ومنابعه، وتوقِفُ العبثَ بدماء الشعوب وبأمن أوطانها ومقدَّراتها، وأن تضمن لها حقَّها فى حياة آمنةِ وعَيش كريمٍ.
وقال شيخ الأزهر إن القضية الفلسطينية التى هى قضية العرب والمسلمين الأولى تأتى فى مقدمة القضايا التى تنتظرُ من هذه القمة العالميَّة وقفةً عادلةً تحقِّقُ الأمنَ والسلام والاستقرار لشعب فلسطين ولشعوب العالمين العربى والإسلامى.