شارك فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر فى فعاليات مؤتمر "الشـــرق والغــــرب" الذى عقد فى مدينة رومـــا، عقب جلسة مباحثات مع البابا فرانسيس بابا الفاتيكان.. وقال فى كلمته التاريخية: «أنا عائد لتوى من جلسة مطولة مع أخى العزيز حضرة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان استعرضنا فيها كثيراً مما يقلق ضمير الإنسانية، ويحمل لها الألم والشقاء، واستشرفنا معا آفاق المستقبل من أجل العمل المشترك لرفع المعاناة عن الفقراء والبؤساء والمستضعفين فى العالم، والحقيقةُ أننى مستبشر كل الاستبشار بهذا الرجل الرمز والنادر فى أيامنا هذه، والرجل الذى يحمل بين جنبيه قلبا مفعما بالمحبة والخير والرغبة الصادقة فى أن ينعم الناس كل الناس بالسلام والتعايش المشترك وتكامل الحضارات وتبادل الحضارات».
مضيفا: «هذا وإنِّى لأهدف من كلمتى فى هذا اللقاء إلى غاية مُحدَّدة هى، الاقتناع بضرورةِ الحوار بين الشَّرق والغَرب وحتميَّةِ استمراره بين حُكماء الفريقين وعُقلائهما، لانتشالِ حضارتنا المعاصِرة مِمَّا أوشك أن يعودَ بها إلى عصورِ الجَهْل والظَّلام على سبيلِ الحقيقة وليس على سبيلِ المجاز».
حرب باردة
«لقد أصبح العُنف المتبادل بين الشَّرق والغَرب اليوم هو السِّمَةَ البائسة التى تعزل حضارتنا المعاصرة، عن باقى الحضارات الإنسانيَّة التى عَبرَت على صفحات الأزمان والآباد، وأرجو ألَّا أذهب بعيداً لو تصورتُ أن حضارة إنسان القرن الواحد والعشرين لا تمثل إلَّا تراجُعاً حضارياً مُخيِّبـاً للآمـال إذا ما قُورِنت بحضارة القرن العشرين، وأنَّ القرن الماضى إذا كان قد حفَلَ فى مُنتَصَفِه الأوَّل بحربَيْنِ عالميتين راحَ بسببهما أكثر من 70 مليون ضحيَّة، إلَّا أن صُنَّاع الحروب والنافخين على نيرانها سُرعان ما أدركوا فداحة الثمن، وتفاهةَ البواعث التى لم تكن تستحق قطرة واحدة مما أُهْدِر من دماء فى هذه الحروب».
وتابع شيخ الأزهر: «رغم أن بلدان العالم قد انقسمت فى ذلكم القرن إلى معسكرين متنافرين أشدَّ التنافر: فكراً وفلسفة واقتصاداً؛ إلا أن الحرب الباردة التى كانت تضبط ميزان التعادل بين المعسكرين المتعاديين؛ كانت حرباً بلا دماء ولا أشلاء، وربما توفر للأمم والشعوب فى ظلال هذه الحرب الباردة، المتوترة حيًنا والمتراخية حيناً آخر، كثيراً من الشعور بالأمن والاستقرار، والإحساس بأن زمناً جديداً أظل الناس لا حرب فيه ولا موتَ ولا دمار. وإنْ سيطر عليه قَدْرٌ من الخوف من المجهول يشتد أحياناً ويَفْتُر فى أكثر الأحايين».
واستطرد بقوله: «ثم جاء سقوط المعسكر الشيوعى فى نهاية القرن الماضى، وتلاه انهيارُ الأنظمة السياسيَّة الحاضنة للفلسفة الشيوعيَّة، نظاماً وراء آخر، وتَوَهَّمْنا -يوم ذاك-أن أسباب الصِّراع بين الشَّرق والغَرب قد آذنت بالغروب؛ لأن العَدو الذى كان يَتحدَّى المعسكر الغربى، ويُنازعه التوسُّع والانتشار، والهَيْمَنةَ على العالَم، ويتهدَّده بالتدمير والرُّعب النووى، قد سقط إلى الأبد».
وأكد الدكتور الطيب فى كلمته، «كان من المنتظر، بل من المأمول إنسانياً وأخلاقياً، أن يبدأ عهد جديد تسود فيه علاقات التعاون والتكامل، وتبادُل المنافع والمصالح بين الدول الثرية والدول الفقيرة، وتلاقح الثقافات والحضارات، بين الغرب والشرق.. عهدٌ يتحمل فيه كلٌّ من الغـرب والولايات المتحدة مسئوليتهما الحضارية، ويدفعون ضريبة التفوق الحضارى والتقنى، بل وضريبة التفوق العرقى - أو العنصري - الذى آمن به الغرب طوال عهود الاستعمار، واتكأ عليه فى تبرير مهمته الاستعمارية فى بلاد الشرق، رغم ما لقيته هذه النظرية العنصرية من تهافت وسقوط على أيدى علماء الأجناس الغربيين أنفسهم.. على أن إيمان الدول الأوروبية بهذه المقولة يحتم عليها أن تقود الأمم والشعوب الأدنى مرتبة منها، والمحتاجةَ إلى شىء مما أفاءه الله على هذه الدول من نعمة الغنى والثراء والتقدُّم التقنى والعلمى والفنِّى والإنسانى.. وهى نِعمٌ كبرى تستوجب مساعدة الشعوب المحرومة؛ وهى شعوب كانت لها أياد حضارية بيضاءَ على نهضة الغرب وتقدُّمه فى شتى مجالات حضارة اليوم».
مضيفاً: «هذه العاصمة الأوروبية التليدة الخالدة التى نلتقى فيها اليوم تشهد على أن المسلمين كانوا فى يوم ما رواداً للحضارة والعلم والفن، ورُسُلاً للتنوير والتعليم والتثقيف، ولدرجة أنه لولا تراث المسلمين؛ ما كان لحضارة الغرب أن تستوى على سوقها كما استوت عليها اليوم.. نعم كان الظن أن تسير أمور العالم بعد الحرب الباردة فى اتجاه السلم والتعاون والتعايش المشترك، غير أن الأمر سرعان ما عاد إلى سيرته الأولى، حين شاءت السياسة العالمية المندفعةُ بمنطق المال والقوة والسلاح، أن تستبدل بالحرب الباردة حرباً جديدة، ومعسكراً جديداً أيضاً، هو معسكر بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، وليتَها كانت حرباً باردة كسابقتها، إذن لهان الأمر وأمكن احتماله، لكنها كانت حرباً من جيل جديد من الحروب، فيه يقتل الضحية نفسه بنفسه، وبمالِه وعلى أرضه، وكالةً عن أنظمة قابعة وراء البحار من سماسرة الحروب وتجار الأسلحة، وكان لا بد - والأمر كذلك- من تسويق صورة مشوهة عن «الإسلام» كدِين يحتضن الإرهاب، وينشر دعوته بالقتل وسفك الدماء وقطع الرؤوس باسم الله».
الإصلاح التربوى
وأشار الإمام الأكبر إلى أنه «ليس من همنا الآن أن نبحث - فى هذه الكلمة الموجزة- عن ظاهرة الإرهاب، وأسبابها، ومَن المسئول الأول عنها، ومَن الذى يموِّلها، ومن أين لتنظيمها بهذه القوة المرعبة، والقدرة على التنقل بجيش وعتادٍ وأسلحة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فى قارتى: آسيا وأفريقيا دون أن تقف فى وجهه حدود الدول وحواجزها.. غير أن أمانة الكلمة تقتضى التذكيرَ ببعض الحقائق التى لابدَّ من ذِكرها فى هذا المقام وهى: أنَّ المسلمين هم ضحايا هذا الإرهاب، وهم الذين يدفعون ثمنه من دمائهم أضعاف ما يدفَعُه غـيرهم مئــات المرات، وهم المسـتهدفون من أســلحته ونيرانه، وضَربُ اقتصادهم وتدميرُ طاقاتهم وإبقاؤهم فى حالةِ اللاحياةِ واللاموتِ؛ كلُّها أهداف مبيَّتة ومدروسة بعناية فائقةٍ».
واستكمل الدكتور الطيب حديثه قائلا: «اسمحوا لى أيها الحكماء والعلماء إن كنت قد أسهبت فى عرض أمر معلوم ومعروف لدى حضراتكم، ولدى كثيرين فى الشرق والغرب، فقد قصدتُ من وراء ذلك التأكيدَ على أن اجتماعنا اليوم، ومن قبله اجتماعات أخرى شبيهة، ليست ترفاً؛ بل هى ضرورةٌ يمليها البحثُ عن حلٍّ لهذه الأزمة التى بدأت تتمدَّدُ كالسرطان الخبيث فى كل مكان.. والتى تبحثُ عن حلٍّ منذ أمد بعيدٍ دون جدوى.. ويسرنى أن أؤكد أمام حضراتكم استعداد الأزهر الشريف لتقديم كل ما يملك من خبرة من أجل تعاون غيرِ حدود من أجل نشر فكرة السلام العالمى، وترسيخ قيم التعايش المشترك وثقافة حوار الحضارات والمذاهب والأديان».
مضيفاً: «فى اعتقادى أن المشكلة تكمن فى أن العلاقة بين التقدم العلمى، الذى هو: عنوان الحضارة الغربية الحديثة.. بعد ما بدت علاقةً عكسيةً فى عصر التنوير، انقلبت رأساً على عقب إلى علاقة «طَرْديَّة» فى عصرنا الحاضر.. فقد بشَّرَنا فلاسفة التنوير بأن تقدُّم الحضارة واتساعَها كفيل بالقضاء على الحروب قضاءً مبرماً، وبمعنى آخَر: إن «السلام العالمى» سوف يسيرُ فى ركاب التحضُّر رأساً برأس وقدماً بقدم حتى قال الفيلسوف الفرنسى «كوندورسيه» أشهر دعاة الإصلاح التربوى (عام 1787م) جملته الشهيرة التى تقول: «بقَدْر ما تتَّسِع رُقعةُ الحضارة على الأرض سوف نشهد زوال الحرب وكذلك زوالَ العبوديةِ والبؤس.. ولم يكد يمرُّ على هذا الحُلُم الجميل قرن واحد، حتى استيقظ الناس على واقع مرير انقلبت فيه العلاقة بين العلم والحرب إلى علاقة «طَرْديَّة» تؤكد أنه كلما تقدم العلم ازدادت الحروب فتكاً وشراسةً، وقد تقررت هذه الحقيقة فى الثقافة المصرية منذ ثلاثينيات القرن الماضى، سواء فى كتابات علماء الأزهر أو عقلاء الكتاب والأدباء والمفكرين، وهو ما نجده اليوم فى كتابات كثير من المفكرين الغربيين، وأحدثُها ما يقوله الفيلسوف البلغارى الفرنسى الذى رحل عن دنيانا هذا العام: «تزفيتان تودوروف» Todorov Tzvetan: «أن الثقافات بكل مكوناتها التقنية والفنية تنتشرُ بسرعة متزايدة فى أرجاء الأرض، وتعرفها شرائح كبيرة من سكان العالَم، ومع ذلك فإن الحروب لم تتوقف، والبؤسَ لم يتراجع، وحتى العبودية لم تُلغَ إلَّا من القوانين، أما على مستوى الممارسة فإنها مازالت باقية»..
حق السلام
وقال فضيلة الإمام الأكبر إن هذه العبارات التى قالها انتهى إليها هذا الفيلسوف والتى تعكس واقعَ عالمنا اليوم، تحملنى على القول: «إنه لا أمَل - فى التعويل على التقدم الحضارى فى ترويض الوحش الهائج المستكن فى ضمير الإنسان المعاصر، وبخاصة بعد ما حطَّم هذا التقدم الحضارى كلَّ مواريث القيم والأخلاق وتأديب الإنسان وتهذيبه، وقَتـَلَ فيه غريزة التديُّن، التى هى نفسُها غريزة الأخلاق والفضائل التى يقاوم بها الإنسانُ اقتراف الجرائم فى حق نفسه وحق غيره.. وبعد ما أزال الحدود بين الحرية كفضيلة، والعبث والفوضى كرذائل مستنكَرة، وصِرنا لا نعرف فرقاً بين سلوك تمليه حقوق الإنسان فى التعبير الحر الملتزم، وسلوك آخرَ فوضوى عبثى يُحسب على مكانة الإنسان ككائن أخلاقى ملتزمٍ، وأيضاً بعد ما أدار هذا التقدم ظهرَه للدِّين وتعاليمِه، واستبدلَ به حريات مطلقة بلا سقف ولا حدود، حتى رأينا من سلوكيات الإنسان المعاصر وتصرفاته ما كان مستحيلاً على ذوى الفطرة السَّويَّة أن يتخيَّلُوه منذ عقود قليلة مضت».
والرأى عندى هو: «أن يركِّزَ حوارنا على طرح قضية الدين كطوقٍ للنجاة، وأن تكون لهذه أولويةٌ على قضايا أخرى يُتوقع طرحها مثل: العلمانية، والعولمة، وغيرهما».
وتابع بقوله: «أنا أعلم - سلفاً - أن موقع الدِّين ومكانَتَه بين الشرق والغرب ليس متطابقاً، إن لم يكن شديد الاختلاف، وأن الفلسفات المادية والإلحادية قد تَسْخَر من هذا الطرح، وتهزأ به وتراه تخلُّفاً وعودة إلى عصور الجهل والظلام. لكن من حقِّ الشعوب التى تُعانى من سياسات التسلُّط والهيمنة والهجير القصرى، ومن سَفْكِ دماء الملايين من الضُّعفاء والفُقَرَاء والأرامل والأيتام - من حق هؤلاء جميعا أن يقولوا بملء أفواهم: «لا» وأنا معهم هنا فى قلب أوروبا أقول: لا، وألفُ لا، بل من حقنا أن نطالب بتصحيح المسار، وبنصيبنا وحقنا فى السلام الذى حُرمنا منه، بينما تتمتع به الكلاب والقطط والحيوانات هنا وهناك».
واستطرد بقوله: سوف يُقال: «إن العودة إلى الدِّين وتعاليمه تزيد الأمر سوءاً، لأن اختلاف الأديان فى العقائد والشَّرائع من أقوى بواعث الحروب بين المؤمنين بها، وهل يمكن أن نتجاهل كمَّ الدِّماء التى سُفِكَت فى الحروب بسبب صراع الأديان، واقتِتال المؤمنين بها؟ وهل يمكن أن نتجاهل أن أوروبا لم تقض على حروبها الداخلية إلَّا بعد أن عزلت الدِّين جانباً عن حياة النَّاس فيما سُمِّيَ بالعلمانية؟.. وهذه الاعتراضات التى يقتنع بها كثيرٌ من الشـباب الآن - غـرباً وشـرقاً أيضاً - تبدو وجيهة بادى الرأى، لكنها قد لا تكون كذلك إذا ما نُوقشت فى ضوء قِراءة صحيحة متعمقة للدِّين، تهدف لاكتشاف محـوريته وأهميتِه القُصوى من أجل حياة سعيدة فى الدُّنيا والآخرة».
قانون أخلاقى
وأضاف الدكتور أحمد الطيب: «جوابنا على هذا الاعتراض: أن الأديان الإلهيَّة الموحى بها من الله تعالى على أنبيائه ورسله لا يمكن أن تكون سبباً فى شقاء الإنسان، وكيف يُقال ذلك وهى ما نزلت إلَّا لهداية البشر إلى الخير والحق والصواب، أمَّا الحروب التى اشتعلَت باسم الأديان فليس لها سببٌ فى القديم والحديث إلَّا سبباً واحداً هو: تسييس الدِّين وتوظيفه واستغلال رجاله لتحقيقِ المطامع والأغراض».
موضحاً أن «الأديانَ كلَّها قد اتَّفَقَت على تحريمِ دم الإنسان، وصِيانة حياته، ويمكن أن تختلف الأديان فى بعض التعاليم حسب ظروف الزمان والمكان، لكنها أبداً لم تختلف فى تحريم قتل الإنسان تحريماً باتاً. بعد أن ربطت مصدر التحريم بمرجعيتين: مرجعيَّةِ النَّص المُقدَّس: «لا تَقْتُل»، ومرجعيَّةِ الضمير الأخلاقى ومركزيته فى التمييز بين الخير والشر، وقُل نفسَ الشىءِ فيما يتعلَّق بمبدأ الواجب العام والمتعارَف عليه بين الناس جميعاً، وقد جعلت الأديان من الحُكماء والقديسين خُبَراء وعارفين وحُـرَّاساً على هـذه الأجهزة الإلهيَّة المغروزة فى فِطرة الإنسان، وأهليَّتِها للتوجيه فى كُلِّ زمانٍ ومكان».
«وهنا يرتبط القُرآن ارتباطاً جذرياً بالإنجيل والتوراة، فيدعو نبى الإسلام إلى نفس ما دعا إليه عيسى وموسى ومَن سبقهم من الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا من الله أفضل الصلاة والسلام، وعلى مَن يُريد أن يقرأ قانوناً أخلاقياً واحداً مكتوباً بمعنى واحد ولغتين مختلفتين، وفى أزمان متباعدة، فعليه أن يقرأ هذا القانون فى الكتاب المقدَّس وفى القُرآن الكريم، وكلُّ ما سيجده القارئ من فَرْقٍ هو أنَّه بينما يَرِدُ فى الكتاب المُقدَّس مجموعاً فى موضعٍ واحدٍ يجده فى القُرآن مُفَرَّقاً فى مواضع عِدَّة، وأدقُّ مثل على ذلك: الوصايا العشر فى التوراة، مقارنة بهذا الكنز الأخلاقى النفيس والمنجم الإنسانى السَّامى القَدْر والعالى الرِّفعة المُسَمَّى بموعظة الجبل، أو ميقات جبل الطور بسيناء فى الإنجيل، وما ورد فى ذلك من آياتٍ متفرِّقةٍ فى القرآنِ فى عهدَية المكيِّ والمدَنيِّ».. وقد درست هذا الموضوع دراسة هادئة، وخرجت منه بعقيدة غير قابلة للاهتزاز، وهى أن هذه الكتب الثلاثة لا يمكن أن يكون مصدرها إلَّا واحداً، وأنَّ بينها ما يشبه الأخوة العضوية فى هداية الإنسان وحفظ حياته».
حقيقة مطلعة
وواصل الدكتور الطيب حديثه، «إذن فليس فى متون الأديان ولا نصوصها المُقدَّسَة ما يدعو إلى سَفكِ دِماء النَّاس، وليس فى سلوك الرُّسُل والأنبياء ما يُفهم منه - من قريبٍ أو بعيد- أنَّ سفكَ دم الآدمى حلال، بل أزعم أنَّ دِماءَ الحيوانات فى الشَّرائع الإلهيَّة مُحرَّمَة، وأنها محوطة بقوانينَ وأحكامٍ شرعيَّة كلها رحمة ورِفق بالحيوان».
«ويضيقُ المقام - أيها السَّادة - لو رُحنا نوضِّح الفَرْق الشَّاسِعَ البُعد بين حـروب بعثتها الأديان، وحروب بعثتها التجارة بالأديان، ولو كان الدِّين مسئولاً عن عبث العابثين به، لكانت حضارتنا اليوم مسئولةً عن حربين عالميتين راح ضحيتها كما قُلنا 75 مليوناً، ومسئولةً عن كل أنهار الدِّماء التى تَسيل اليوم فى سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان وغيرها، فهذه الدماء لا تسفِكُها الأديان وإنَّما يسفكها ظُلم الإنسان لأخيهِ الإنسان، ومَوتُ ضميره وتبلُّدُ إحساسه بآلامِ الآخرين وأحزانهم ومآسيهم. وليس صحيحاً أن أوروبا تخلَّصت من الحروب حين أقصت الأديان من مراكز التوجيه فى المجتمع، والصحيح أنها تخلَّصت من الحروب حين قررت ذلك بعدما ذاقت ويلات الحرب ومآسيها فى القرن الماضى».
وتابع: «قد حملت تُهْمَة قابليَّة الأديان لإشعال الحروب بسبب أن المؤمنين بكل دين يزعمون أن دينهم يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن غيرهم على خطأ، وعلى أصحاب الحقيقة المطلقة أن يرجعوهم إليها إمَّا بالإقناع أو السَّيف، أقول: هذه التُّهمة حملت كثيراً من كبار اللاهوتيين على البحث عن حل لما يبدو أنه «معضلة» الأديان فى عالَم اليوم، وطرحت أسئلة عدة فى هذه القضية تراوحت بين ضرورة ادعاء امتلاك الحقيقة مع ضرورة إدخال الآخَرِ فيها، وبين تجاهل التناقضات بين الأديان بسبب صعوبة التمييز بين الحقيقة والضلال، وبسبب خضوع الأديان لقانون التطور والتقلُّبات التاريخية، وكأن الحقيقة -فى نظر هذا الفريق- هى حقيقةٌ نسبية وليست مطلقة».
مضيفا: «ورأيى الذى أستمده من فلسفة الإسلام فى هذه القضية؛ هو أن الإيمان الدينى اعتقاد يجب أن يرقى إلى درجة العلم الذى لا يحتمل النقيض بحالٍ من الأحوال، أى لا يقبل الشك ولا الظن والوهم، وهذا يتطلَّب بالضرورة أن تكون العقيدة حقيقة مطلقة، وأن ما يناقضها لا ينطبق عليه هذا الوصف.
وفى تصورى أن هذا هو الأساس المتين لبنيان أى دين من الأديان، وإلَّا لو فتح باب النسبية فى الدين وقَبول الشك فى معتقداته، أو التسليم بأن دِيناً غيره هو أيضاً يمتلك الحقيقة، رغم التناقض بين الدينين فى أساس الاعتقاد، لو فتح هذا الباب أمام المؤمنين بالأديان لكان عليهم أن يختاروا بين أمرين: إما الشك فى دينهم، وحينئذ لا ينطبق عليهم وصف المؤمنين بهذا الدِّين، أو يقبلوا اجتماع الخطأ والصواب على فكرة واحدة وهذا من المستحيلات التى لا يمكن تصورها، فلابد والأمر كذلك من أن يعتقد كل مؤمن بدين بأنه يؤمن بالحقيقة المطلقة التى لا حقيقة سواها.. وهذا يستلزم الاعتراف بأن الإيمان بنسبية العقيدة الدينية فى أى دين من الأديان هو هدم للدين أو وضعه بكل تعاليمه فى مهب الريح».
دار العبادة
وأشار فضيلة الإمام الأكبر إلى «أن النزاع المفترض فى هذه الحالة بين المؤمنين المتصارعين حول الحقيقة الواحدة؛ فإنه اعتراض غير وارد لأمرين: الأوَّل: أن النُّصُوص الإلهيَّة قاطعة فى منع إكراه الآخر على قبول دين لا يريده، ويراه جريمة تعادل جريمة قتل النفس، بل تزيد عليها، لأن محاولة نزع الاعتقاد عن المؤمن أقسى عليه من نزع روحه التى بين جنبيه، بل المؤمن بالله يجود بروحه وبنفسه رخيصة من أجل الاستمساك بدينه وعقيدته.. والقُرآن ملئ بالآيات التى تبين عبثية الإكراه على العقائد، لأن العقائد - ببساطة- عمل قلبى، ولا سلطان على القلوب كما هو معلوم.. وآيات الإنجيل فى هذا الأمر واضحة وضوح الشمس فى وسط النهار.
والثانى: إذا كان إكراه الآخر على اتباع دين من الأديان هو ضرب من العبث واللامعقول، فيجب - والأمر كذلك - احترام عقيدته، والتسـليم له بدينه، بل يجــب -شرعاً- على الدولة الذى يعيش فيها هذا الآخر المختلف دِيناً، أن تمكنه الدولة من ممارسة شعائر دينه، وأن توفر له دار العبادة التى يتعبَّد فيها، وأن تلتزم بكل الضمانات التى تمكنه من ممارسة هذا الحق الذى لا يرى حقاً سواه».
واختتم كلمته بقوله: «إنه لا يتم إيمان بدين إلَّا بالاعتقاد الجازم بأنه الحقيقة التى لا حقيقة غيرها، وأن واجب المؤمن تجاه الأديان الأخرى، التى يعتقد أنها لا تحظى بما حظى به دينُه من تفرد بالحقيقة، واجبُه هو احترام الأديان الأخرى، واحترام المؤمنين بها احتراماً لا يقل عن احترامه هو نفسُه لدينه.. وفرق هائل بين الاحترام الكامل لدين الآخر، وبين الاعتراف والإيمان بدين الآخر.. وفى هذه النقطة تحـديداً زلت أقدام المتشددين والمتطرفين ونبعت دعوات تكفير الآخر وإرهابه وقتله».