الإمام الأكبر: القرآن حصن الأمة ودرعها الواقى الذى حماها من السقوط والانسحاق
الجرأة على المقدسات الإسلامية من أقوى أسباب انتشار الإرهاب.. ولا توجد آية فى القرآن تدعو للقتل
أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته التى ألقاها باحتفالات وزارة الأوقاف بليلة القدر والتى أقيمت بمركز الأزهر للمؤتمرات أن الاحتفال بليلة القدر المباركة، لما لها من مكانة خاصة فى قلوب مسلمى العالم، وهى ليلة خير من ألف شهر، كان قدرها عظيما إذ أنزل الله- عز وجل- فيها القرآن، واختصها- تعالى- بشأن كبير، إذ أراد فيها أن يكافئ عباده المؤمنين ويضاعف لهم أجرهم.
وتابع الرئيس: وإننا إذ نحتفل بهذه الليلة، لنتوجه إلى الله سبحانه وتعالى أن يحفظ وطننا الغالى من كل مكروه وسوء، وأن ينعم علينا وعلى أمتينا العربية والإسلامية بالخير واليمن والسلام، وبالتحية للعلماء المخلصين من رجال الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف، الذين يعملون على تصحيح المفاهيم الخاطئة بشأن الدين الإسلامى السمح، ونهجه الوسطى المعتدل، والتصدى للغلو والتطرف ومواجهة الفكر المنحرف، ويعملون على إعلاء القيم الإنسانية والأخلاقية والمحبة بين الناس جميعا.
واسترسل الرئيس السيسى: نستلهم معا من ليلة القدر الحكمة والموعظة الحسنة، فرغم ما أكرمنا به الله فى هذه الليلة من فرصة مضاعفة للثواب والأجر، إلا أن اغتنام هذه الفرصة مقترن بالعمل وبذل الجهد، فلا يرجى الخير والمغفرة من الله من دون عمل، حتى فى ليلة القدر التى أجزل الله فيها العطاء، فلا خير بدون عمل، لافتا إلى أن ذلك هو المبدأ الذى قامت عليه الحضارة الإسلامية العريقة، تلك الحضارة التى شهدت ازدهارا فى مختلف مناحى الحياة الاقتصادية والعلمية والثقافية، حتى أصبحت اللغة العربية وقتها هى لغة أهل العلم، وأصبح علماء المسلمين هم أصل العلوم الحديثة.
وبين أنه المبدأ الذى يستند إليه كل من يرغب فى النجاح أشخاصاً كانوا أو جماعات، وهو المبدأ الذى نستند إليه شعبا وحكومة لتغيير واقعنا، وفرض واقع جديد يزخر بالخير والنماء لنا ولأبنائنا فى المستقبل بإذن الله تعالى، فلقد شهدت مصر خلال السنوات الماضية تحديات كبيرة، وكانت عزيمة الشعب المصرى صلبة أمام هذه التحديات، حيث انتفض حمايةً لوطنه ورغبة فى تهيئة الظروف لغد أفضل، كان المصريون يدا واحدة فى مواجهة قوى الشر والظلام التى حاولت هدم وطنهم، ووقفوا بحزم أمام محاولات بث الفرقة وإشعال الفتن، وتصدوا لكل من سولت له نفسه تهديد أمن الوطن.
وأوضح أن أبناء هذا الشعب قدموا دماءهم وأرواحهم فداء لهذا الوطن الغالى ودفاعا عن استقراره، وتحملوا بصبر ظروفا اقتصادية صعبة، وبالعمل واصلوا الإصلاح من أجل بناء دولة عصرية حديثة ومجتمع متطور، وأبهروا العالم بقدرتهم على تحقيق الإنجازات فى العديد من المجالات.
مختتما: فى هذه الليلة المباركة من هذا الشهر الكريم، شهر القرآن والمغفرة، والرحمة والصدق والصبر، والتى أنزل الله فيها القرآن الكريم، ليهدى به إلى الخير والسلام والبناء، وينهى عن الشر والفرقة والأذى، نتوجه لله سبحانه وتعالى بالدعاء بأن يسدد على طريق الخير والبناء خطانا، وأن يمدنا بمزيد من قوة الإرادة، وضبط النفس، ويقظة الضمير فى العمل والإنتاج والتميز والإتقان، فى جميع جوانب الحياة، وأن يكلل عملنا وجهدنا بالنجاح والتوفيق، ومصر بسلام وتقدم وازدهار.
«درس إيمانى»
وفى الكلمة التى ألقاها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف قال: إن الدرس الذى يجب أن يستخلصه المسلم فى ذكرى هذه الليلة ليس ما هو درج عليه المسلمون من رصدها أملا فى إجابة الطلبات وتحصيل أمور الدنيا وتحقيق الأغراض والمصالح، وإنما نزول القرآن فى هذه الليلة فرقانا بين الحق والباطل، وتمييزا للخير من الشر، وبيانا للمباح والمحظور، وبداية لعهد جديد أصبح الإنسان فيه خليفة عن الله تعالى فى عمارة الكون وتسخيره، ومسئولا عن السير على منهج الله من أجل إقامة العدل والحكم بالحق، وتطبيق المساواة بين الناس، ودفع البغى والعدوان والظلم والتظالم بينهم. لافتا هذه هى أبرز القيم التى يرتفع بها مجتمع ويهبط بدونها مجتمع آخر فى منطق القرآن وفلسفة الإسلام.
كما بين فضيلة الإمام الأكبر: القرآن الكريم الكتاب الإلهى الذى شكل حصن الأمة، ودرعها الواقى، وسياجها الفولاذى الذى حماها على طول تاريخها من السقوط والانسحاق والذوبان. مستدلا بأعتى حضارتين عرفهما التاريخ فى عصر ظهور الإسلام، (الحضارة الفارسية، والحضارة البيزنطية) أو (الأكاسرة فى الشرق، والقياصرة فى الغرب) وكانتا حديث الدنيا قوة وصراعا واستعمارا للأرض، حتى لم تكد بقعة من بقاع جنوب جزيرة العرب وشمالها، ومن بقاع وادى النيل، تخلو من سيطرة جيش لإحدى الدولتين، ولم تكن القوتان تتحسبان لأى خطر يأتيهما إلا من خطر إحداهما على الأخرى.
لافتا إلا أن ما حدث للدولتين يومئذ كان أمرا من العجب، فيما يقول مؤرخو الحضارات، فقد جاءهما الخطر من قلب الجزيرة العربية، ومن جيش مجهول قليل العدد، ضعيف العتاد فقير السلاح.. ولم تمض بضع سنين حتى هزمت الدولتان أمام هذا الجيش، وأصبحتا أثرا بعد عين، بينما بقيت حضارة المسلمين تتحدى الزمن وتراهن على البقاء والتشبث بالوجود، رغم تلاحق الضربات، ومحاولات التمزيق والتفريق وطمس الهوية وإثارة الفتن وإشعال الحروب.
وأوضح فضيلته أن السبب الحقيقى وراء انهيار القوتين العظميين، وانتصار الإسلام وانتشاره فى الأرض، والذى حرص أعداء الإسلام على استبعاده، هو «القرآن الكريم» الذى كان بأيدى هذه القلة الضعيفة، الذين يعرضون قيمه وأخلاقه على الناس، فيسارعون إليه فرارا من رهق الظلم والعبودية، والتمييز والطبقية والعنصرية التى لبست رداء الدين زورا وبهتانا، وغير ذلك من أمراض الدول العظمى فى ذلكم الوقت، والتى كانت تنخر فى بنيانها العميق؛ قبل أن يجيئها أمر الله ويجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
وأكد الإمام الأكبر: أن القرآن نزل فى ليلة القدر ليعلن احترام الإنسان ويؤكد تكريمه وتفضيله على سائر المخلوقات، ويفتح أمامه آفاق العلم وأبواب المعرفة بلا حدود، ويدفعه دفعا للتفكير والنظر والبحث والتأمل، بعد ما حرر عقله من أغلال الجهل والجمود والتقليد والاتباع الأعمى بغير حجة ولا دليل. ويعلن فى الوقت نفسه تحرير المرأة، والتى أعاد لها ما صادرته عليها أنظمة المجتمعات فى ذلكم الوقت من حقوق لا يتسع المقام لتعدادها وبيانها. وجاء بفلسفة جديدة للحكم تقوم على العدل والمساواة والشورى ومنع الاستبداد.
وتابع: القرآن جاء بأمهات الفضائل وجوامع الأخلاق والآداب، وقرر المسئولية الفردية ومسئولية المجتمع كذلك، ومع أن القرآن الكريم قد أقر سنة التفاوت بين الناس فى العلم والخلق والرزق والمعيشة، إلا أنه هدم العصبية وأتى على بنيانها الجأهلى من القواعد، فساوى بين الناس ولم يفرق بين إنسان وآخر، ولا بين جنس، ولا أمة إلا بالعمل الصالح، وكان التعدد والاختلاف بين عقائد الناس وألوانهم ولغاتهم وسيلة لتعارفهم واجتماعهم وتعاونهم.
مستدلا بقول الله «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» وهناك الكثير مما نزل به القرآن الكريم فى شئون المجتمعات وفى العلاقات الدولية وفى أمر العقوبات وفى الأسرة وغير ذلك.. منوها «دع عنك ما يتعلق بالعقيدة والعبادة والمعاملات بتنوعاتها والغيبيات والدار الآخرة».
واسترسل: أمر طبيعى أن يتعرض القرآن على مدى أربعة عشر قرنا لحملات التشويه والازدراء وتنفير الناس منه، ولايزال يتعرض لهذه الحملات المضللة فى عصرنا هذا، ومن أقلام ينتمى أصحابها إلى الإسلام، ممن يؤمنون بالمذاهب الأدبية النقدية فى الغرب، وبخاصة ما يسمى بالحداثة وما بعد الحداثة، وهى مذاهب تقوم فى صورتها الأخيرة على قواعد صنعوها، ومسلمات اخترعوها اختراعا، مثل: إلغاء كل حقيقة دينية فوقية، والتمسك بالذاتية الإنسانية كمصدر أوحد للمعرفة أيا كان نوع هذه المعرفة، وأن الإنسان وحده قادر على أن يمتلك الحقيقة، ولا توجد أية سلطة تعلو عليه أو على العالم «حتى لو كانت هذه السلطة هى الله تعالى» وهذا المذهب يستدعى معظم العناوين الاجتماعية الحديثة التى تتطاير غربا وشرقا، «الديمقراطية، وحقوق الإنسان والعلمانية، والدولة الليبرالية والملكية الفردية».
واستطرد: وما حملته إلينا الأنباء ونحن نحتفل بنزول القرآن الكريم من ثمرات الحداثة المرة، البيان الذى صدر بعنوان «المسيرة البيضاء» فى الغرب الأوروبى بعد مقتل سيدة فرنسية يهودية مسنة تبلغ من العمر خمسة وثمانين عاما فى شقتها، ورغم ما فى البيان من إشارات سلبية واضحة للإسلام والمسلمين يمكن التغاضى عنها من كثرة ما ترددت على مسامعنا وتكرارها إلا أن الذى لا يمكن التغاضى عنه عبارة وردت فى البيان تطالب السلطات الدينية الإسلامية «بأن تعلن أن آيات القرآن التى تدعو إلى قتل اليهود والمسيحيين وغير المؤمنين ومعاقبتهم قد عفا عليها الزمن، كما كان حال التناقضات فى الإنجيل كما جاء فى الترجمة العربية للبيان، ومعاداة السامية التى تتبناها الكنيسة الكاثوليكية من قبل المجلس الفاتيكانى الثانى.. بحيث لا يستطيع أى مؤمن الاستناد إلى نص مقدس لارتكاب جريمة».
وكشف الإمام الأكبر: أن هذه الجرأة على مقدسات الآخرين هى من أقوى أسباب الإرهاب وأشدها وأكبر مشجع على إهدار دماء الآمنين، ويحزننى كثيرا ألا ينتبه قائلو هذا الكلام إلى كم الحقد والكراهية الذى يتركه كلامهم فى قلوب أكثر من مليار ونصف مليار ممن يقدسون هذا الكتاب، وقد رجعنا إلى مضابط الفاتيكان فلم نجد حذفا ولا تجميدا لأى حرف من الكتاب المقدس، وما وجدناه هو: أن المجمع الفاتيكانى وإن كان يقر بأن بعض اليهود من ذوى السلطان وأتباعهم هم المسئولون عن قتل المسيح، إلا أن المجمع يرى أن ما اقترفته هذه الأيدى الآثمة لا يمكن أن ينسب لجميع اليهود فى عصر المسيح عليه السلام ولا فى عصرنا الحاضر ثم يطالب المجمع سائر الكنائس بأن تراعى هذه الروح وهى تعلم الإنجيل أو تكرز به.
وأعلن فضيلته: لا توجد آية واحدة فى القرآن الكريم تدعو إلى قتل اليهود والنصارى، وليس فى هذا الكتاب مكان لمثل هذه القسوة والوحشية، وما ورد فى القرآن من آيات تدعو إلى القتال فإنما ورد فى شأن العدوان ووجوب التصدى للمعتدى ومقاتلته، حتى لو جاء هذا العدوان من بعض المسلمين: «فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله» فلماذا يأمر القرآن بقتل الغير وهو يقول (لا إكراه فى الدين) وكيف يصنع بالحديث النبوى الشريف «وأنه من كره الإسلام من يهودى أو نصرانى، فلا يغير عن دينه..».. وكيف والقرآن يأمر بالبر وبالقسط مع كل من لا يقاتل المسلمين حتى لو كان وثنيا، كيف والمنصفون من اليهود أنفسهم لا يقرون بما نعموا به من العيش الآمن مع المسلمين ويعترفون به للدولة الإسلامية فى الأندلس وفى مصر وغيرهما.
كما أعلن أن الإسلام لم يأخذ اليهود المعاصرين بجريرة الأسلاف، ولم يخاطب يهود المدينة بخطاب واحد، بل كان فى غاية الدقة وهو يتحدث عن اليهود بحسبانهم أمة فيها البر والفاجر مثل سائر الأمم بما فيهم المسلمون، وقد سمع يهود المدينة هذه التفرقة بآذانهم بين المحسن والمسىء من أهل الكتاب فى قوله تعالى: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون...» وقوله سبحانه «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما...بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين» لافتا إلى أن الوصف باللعنة والذلة والغضب فى القرآن الكريم لم يكن موجها لليهود جميعا كما يريد البيان أن يتهم به القرآن بل كان موجها للذين كفروا من أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل منهم: «ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون»، «لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» ولم يقل لعن بنو إسرائيل.
منوها شيخ الأزهر بأنه لم تكن بنا حاجة إلى هذا التعقيب الموجز على البيان المذكور فلو أن لدى من كتبوه ونشروه قدر من الشجاعة العلمية أو الأدبية أو الفنية ليعلنوا للناس أن اليهودية شىء والصهيونية شىء آخر، وأن اليهود شىء والكيان الصهيونى شىء آخر، وأنه لا يلزم من نقد الكيان الصهيونى نقد اليهود والدين اليهودى، وأن مسألة «عداء السامية» هى أكذوبة لم تعد تنطلى على الشعوب الآن.. وهذا كلام بعض الحاخامات الأفاضل من حركة ناطورى كارتا الذين دعوناهم فى مؤتمر الأزهر العالمى لنصرة القدس وجاءوا وأعلنوا هذا الذى سمعتموه منى، بل أعلنوا أكثر مما سمعتموه.. وعزائى كمسلم أن الذين أصدروا هذا البيان أغلبهم من صناع السياسات وليسوا من صناع العقول والمعارف.