| 28 مارس 2024 م

متابعات

"صوت الأزهر" تروى أسرار وحكايات أكثر من ألف عام أزهرية

  • | الثلاثاء, 21 مايو, 2019
"صوت الأزهر" تروى أسرار وحكايات أكثر من ألف عام أزهرية

-  فتوى ابن درباس التى استند إليها صلاح الدين فى إغلاق الأزهر

-  نائب السلطنة المملوكية ينقل منزله لمراقبة أعمال الإصلاح فى الأزهر

-  أول فرمان عثمانى لتنصيب شيخ للأزهر

-  ثورة العميان للحصول على حقهم فى الأوقاف

-  الأوروبيون ممنوعون من دخول الخدمة الطبية إلا بعد اختبارهم من  الأزاهرة

- انتقال الحلقات من الجامع إلى محاضرات فى الجامعة

 

  

مر الجامع الأزهر بمراحل من التطور والازدهار عبر تاريخه المجيد وقد كان له من اسمه نصيب فالكلمة فى اللغة العربية تعنى كلّ لون أبيضَ صَافٍ مشرق مضىء وتشير أيضاً إلى  القمر، فيطلق الأَزْهَران على الشَّمس والقمر، وقد ذكر فى وصف صفة النبى أنه أزهر اللون واسع الجبين، وقد سمى الأزهر بهذا الاسم تعبيرا عن النور المشع لأن الفاطميين رأوا فى هذا الاسم ما يشجيهم إذ يذكرهم بالاسم الذى ينتمون إليه - الفاطميون - نسبة للسيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان لقبها الزهراء وكانوا يطلقون على مساكنهم اسم القصور الزاهرة ونعتوا حدائقهم بنفس الصفة، فلا غرابة أن يطلقوا على مسجدهم الجامع اسم (الأزهر)،  وقد كان الغرض من إنشائه فى بداية الأمر الدعوة إلى المذهب الشيعي الإسماعيلى،  غير أن الله تعالى جعله منارة لأهل السنة فيما بعد ومشكاة تنبعث منه أنوارهم  فتنتشر فى جنبات الأرض،  ثم لم يلبث أن أصبح جامعة، يتلقى فيها طلاب العلم مختلف العلوم الدينية والعقلية، وقيل إنه سُمِّىَ بذلك تفاؤلاً بما سيكون له من الشأن العظيم والمكانة الكبرى بإزهار وازدهار العلوم فيه، ويرجع الأزهر فى تاريخه إلى الجامع الذى بناه جوهر الصقلى حيث بدأ فى بنائه عام 359هـ الموافق 970م وتم البناء فى السابع من رمضان 361هـ الموافق 23 من يونيو 972م  وبعد عام من استكمال  البناء قدم الخليفة المعز لدين الله الفاطمى من الشمال الأفريقى إلى مصر، وفى عيد الفطر من عام 973م  أعلن الخليفة أن الأزهر هو المسجد الجامع للعاصمة الجديدة (القاهرة).

وقد أقيمت الدراسة فعليا بالجامع الأزهر فى أواخر عهد المعز لدين الله الفاطمى عندما جلس قاضى القضاة أبوالحسن بن النعمان المغربى سنة 365 هـ (أكتوبر 975م)، فى أول حلقة علمية تعليمية، وقرأ مختصر أبيه فى فقه الشيعة، والمسمى بكتاب «الاختصار»، فى جمع حافل من العلماء والكبراء، ثم توالت حلقات العلم بعد ذلك.

  ويرجع الفضل فى إسباغ الصفة التعليمية على الأزهر إلى الوزير يعقوب بن كلس، حيث أشار على الخليفة العزيز بالله الفاطمى سنة 378هـ بتحويله إلى معهد للدراسة، بعد أن كان مقصورا على العبادات الدينية، بأن  يعيّن جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس يحضرون مجلسه ويلازمونه ويعقدون مجالسهم فى الأزهر فى كل جمعة بعد الصلاة وحتى العصر، وكان عدد هؤلاء الفقهاء 35، وقيل 37، وقد رتب لهم العزيز أرزاقاً ومخصصات شهرية، وأنشأ لهم داراً للسكن بجوار الأزهر، وتنوعت حلقات الدراسة بين الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، وغيرها من العلوم الشرعية.

وفى عهد صلاح الدين الأيوبى بمصر فى 567هـ/ 1171م، بادر  بإزالة كل مظاهر التشيع فتوقفت الخطبة وصلاة الجمعة بالأزهر ليقلل من أهميته كونه المقر الرسمى الدينى للدولة الفاطمية الشيعية، وحل محله جامع الحاكم بأمر الله،  وبدأ فى تغيير أى شىء يمت بصلة إلى الدولة الفاطمية، فصرف قضاة مصر الشيعة كلهم، وأزال كل أثر للفاطميين، وأسس مدارس فقهية حتى يُثبّت مذهب أهل السنة فى البلاد، ورغم تعطل إقامة الخطبة فى الجامع الأزهر نحو مائة عام، إلا أن هناك دلائل تشير إلى استمرار الدروس به على فترات متقطعة على المذهب السنى، فمما لاشك  فيه أنه كان لكثير من هؤلاء العلماء تلمذة على أساتذة الأزهر وحلقاته العلمية فى العصر الفاطمى.

 وقد استند صلاح الدين فى منع الصلاة بالأزهر إلى فتوى قاضى القضاة  آنذاك  صدر الدين عبدالله بن درباس الشافعى المذهب الذى أفتى بأن المذهب الشافعى لا يجيز أن تقام خطبيان للجمعة فى مدينة واحد، وكذلك الحال بالنسبة إلى خطبتى عيد الفطر، وعيد الأضحى، ومن ثًم فلا معنى لوجود مسجدين جامعين فى مدينة واحدة، وكان الجامع الآخر هو جامع الحاكم بأمر الله، إذ كان مسجدا عمرو بن العاص وأحمد بن طولون يقعان فى مدينتى الفسطاط والقطائع بالترتيب، وكانا مستقلتين عن القاهرة حينها، وتقرر حينها الاكتفاء بإقامة الصلاة فى جامع الحاكم وظلت إقامة الجمعة معطلة فيه نحو مائة عام، حتى جاء العصر المملوكى  فاستأذن الأمير عزُّ الدين الحِلِّى، نائب السلطنة فى ذلك الوقت،  السلطانَ الظاهر بيبرس البندقدارى فى تجديد عمارته؛ فأذن له، وأعانه بمبلغ من المال وأمر السلطان بعودة رواتب الطلاب والمعلمين، وبداية العمل لإصلاح المسجد، الذى أهمل منذ مائة عام، وبنى  الأمير عز الدين منزله بجوار المسجد؛ لمراقبة أعمال الإصلاح ووُفِرت الحُصر الجديدة، وأُلقيت الخطبة الأولى على منبر جديد انتهى قبل الخطبة بخمسة أيام، ثم بنيت  المدرسة الأقبغاوية والمدرسة الطيبرسية والمدرسة الجوهرية، وتابع السلطان قايتباى وقنصوة الغورى، الإصلاحات وبنوا رواق الأتراك والشوام، وأشرفوا على بناء المآذن إذ كانوا يعدونها رمز القوة والطريقة الأكثر فعالية فى تجميل  مدينة القاهرة.

 وجَذَب الأزهر الطلاب من دول قريبة وبعيد، حتى بلغ عددُهم سنة 818هـ/1415م نحو 750 مجاوراً تنوعت أصولُهم الجغرافية تنوعاً ملحوظاً، فكان منهم المغاربة والزيلع - أهل الصومال-  فضلاً عن المصريين، لا سيما أهل الريف، وكان لكل طائفة منهم رواق خاص بهم، تقيم فيه بأمتعتها، وتُجرى عليهم الرواتب عيناً ونقداً، وجرت العادة بمبيت كثير من الناس فى ساحة الجامع الأزهر، بين تاجر وفقيه وجندى وغيرهم، فمنهم من يلتمس البركة، ومنهم من لا يجد مكاناً يأويه، وارتفع عدد المجاورين سنة 855هـ/1451م ليصل إلى نحو ألف مجاورٍ، جرى توزيعهم على أربعة أروقة أساسية، وهى: رواق ابن معمر، ورواق الريافة، ورواق المغاربة، ورواق الجبرت والزيالع واليمنيين وكان لنظام الأروقة دور ملحوظ فى علوّ مكانة الأزهر محلياً وإقليمياً، وكانت إقامة هؤلاء المجاورين تخضع لرقابة دقيقة وقواعد صارمة قد تبلغ حدَّ التعسف فى بعض الأحيان، ولم تكن دولة المماليك حتى حين تراجع اقتصادُها وضربتها الأزماتُ المالية تبخل عليهم بالرعاية المادية؛ ففى سنة 865 هـ/1460م أرسل السلطان إليهم ألف دينار، فكان لكل شيخ ستة دنانير، ولكل طالب ثلاثة، وظل الأثرياء يقصدون الجامع الأزهر بأنواع من البر والأطعمة والأموال لاسيما فى المواسم؛ إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى، ومنهم من خصَّص وقفه للغرباء والمهاجرين من مجاورى الأزهر؛ حيث نصَّتْ إحدى وثائق الوقف على أن يُصرف من ريع الوقف المذكور فى ثمن خبز يُفرَّق لله تعالى فى الجامع المعمور بذكر الله تعالى المعروف بالأزهر على الفقراء المجاورين.

وفى عهد الخلافة العثمانية 1517/ 1789م تم  تنصيب أول شيخ للأزهر فقد كان السلطان العثمانى سليمان القانونى قد أصدر فرمانا بضرورة تنصيب شيخ للأزهر يختاره العلماء من بينهم يتفرغ للإشراف على شئونه الدينية والإدارية، فتم اختيار الشيخ محمد الخراشي  كأول شيخ للأزهر، فقبله لم تكن مشيخة الأزهر منصبا رسميا بل كان يُشرف عليها الأمراء والسلاطين وكانت طبيعة أعماله المحدودة تمكنهم من ذلك وعندما كثر الطلاب وزادات الأعباء رؤى تنصيب شيخ له ليواجه تلك المسئوليات ويقوم بها وكان لهذا الشيخ مكانة كبيرة فى قلوب الناس لوقوفه بجوار المظلومين حتى يحصلوا على حقوقهم، وكان رحمه الله من العلماء المشهود لهم بالتقوى والورع فقد كان كثير الشفاعات عند الأمراء وغيرهم، مهيب المنظر، دائم الطهارة، كثير الصمت والصيام والقيام، زاهداً، ورعاً، متقشفاً فى مأكله وملبسه ومفرشه وأمور حياته، وكان لا يصلى الفجر صيفاً ولا شتاء إلا بالجامع الأزهر، ويقضى بعض مصالحه ومصالح أهل بيته من السوق بيده، وكان له فى منزله خلوة يتعبد فيها، وكانت الهدايا والنذور تأتيه من أقصى بلاد المغرب، وغيرها من سائر البلاد فلا يمس منها شيئا، بل كان يعطيها لمعارفه والمقربين منه يتصرفون فيها، وكان حجة فى الفقه المالكى، ومن مؤلفاته الشرح الكبير على متن خليل فى فقه المالكية فى ثمانية مجلدات، والفرائد السنية فى حل ألفاظ السنوسية فى التوحيد، والأنوار القدسية فى الفرائد الخراشية، وهو شرح للعقيدة السنوسية الصغرى، المسماة (أم البراهين)، وصارت الكلمة (ياخراشى) هى النداء الشعبى للمصريين والدليل القاطع على سر قوة الأزهر، حيث كان المصريون يجدون الملاذ الآمن فيه ليفك كربهم ويعينهم على قضاء مظلمتهم، فإذا ظلمهم ظالم يقولون: يا خراشى، وإذا تجنى عليهم حاكم البلاد قالوا ياخراشى، وإذا اختلف الناس فيما بينهم قالوا يا خراشى، وبعد موته لم يجدوا من يقضى حاجتهم ويستمع لشكواهم فكانوا يصرخون بأعلى صوتهم «ياخراشى»، متمنين عودة الرجل إلى الحياة مرة أخرى.

كما أنشأ الأمير عثمان كتخدا القارذوغلى قبل وفاته بعام فى 1735م رواق أو زاوية العميان، وكانت تقع هذه الزاوية بالقرب من المدرسة الجوهرية، يفصل بينهما ممر من الحجر يمشى عليه المتوضئون من ميضأتها، ويحتوى هذا الرواق على أربعة أعمدة من الرخام، وله قبلة وميضأة، وثلاثة عشر مرحاضا وفوقها ثلاث غرف يسكنها طلبة العلم من غير المبصرين، ولا يقيم فيها غيرهم، ولا ينصب شيخ على هذه الزاوية إلا من العلماء غير المبصرين.

وطلبة هذه الزاوية معظمهم يدرسون الفقه على مذهب الإمام الشافعى، وأقلهم يدرسونه على المذهب المالكى، أو مذهب الإمام أبى حنيفة، ويعيشون على الأوقاف المحبوسة عليهم وقد عرفوا بحميتهم وغيرتهم الدينية، وكثيراً ما كانوا يثورون بحدة قبل تولى محمد على حكم مصر إذا أحسوا بأن ظلماً قد وقع عليهم، أو كلما انقصت رواتبهم من الطعام، وكان للمجاورين بهذه الزاوية جراية توزع عليهم يومياً، كما خُصص لشيخ هذه الزاوية راتب شهرى من الوقف الخيرى قدره خمسة وسبعون قرشا، وخُصص لكل فقيه من فقهائها راتب شهرى قدره «خمسة وأربعون قرشا»، وكان لشيخ الزاوية سلطان وسلطات واسعة على الطلبة إذ كان يبعث بمجموعات منهم إلى الملتزمين، ونظار الأوقاف لاستيفاء المبالغ المطلوبة منهم للزاوية إذا تأخروا فى سدادها، وعندما كان الشيخ عطا الله السنديسى شيخا للزاوية قام برفع دعوة ضد ديوان الأوقاف يطالب فيها بحقوق مجاورى الزاوية فى أوقاف عبدالرحمن كتخدا، وكان هذا الوقف قد دخل فى إدارة ديوان الأوقاف منذ عهد محمد على باشا، ولم يصرف لهم منه شيئا، فجاء حكم المحكمة لصالحهم فى الرابع من أبريل 1893م/ 1311هـ وألزمت المحكمة ديوان الأوقاف بصرف مستحقاتهم حسبما أوقفها الواقف وطبق شروط الوقف، ولم يكتف هذا الشيخ بذلك الأمر بل رفع دعوى أخرى ضد ديوان الأوقاف طلب فيها حقوق العميان المتأخرة عن المدة من سنة 1292هـ / 1875م إلى سنة 1312هـ/ 1894م، وحكم فى هذه الدعوى فى السادس من أبريل 1897م/ 1315هـ وجاء الحكم مقرراً أن حقوق زاوية العميان هى ثمانون ومائة أردب من القمح فى السنة وهو مايبين  مدى قوة وصبر هؤلاء المجاورين غير المبصرين فى المطالبة بحقوقهم المالية، لأنهم كانوا يؤمنون بأن هذه الأموال حق لهم يراد حجبه عنهم وأنها وقف يجب أن ينفق فيما خصص له، وأن هذه الأوقاف المحبوسة على زاويتهم هى التى تدفع مسيرتهم العلمية إلى الأمام ليحصل كل واحد منهم على غايته العلمية التى يطلبها، وهى التى وفرت لهم الإعاشة الواجبة لهم خاصة أنهم لا يستطيعون القيام بأعمال توفر لهم عيشهم بسبب عدم إبصارهم، ولا شك فى أن هذه الأوقاف كانت من عوامل جذب طلبة العلم من غير المبصرين إلى الأزهر للتعلم والتفقه وحفظ القرآن الكريم، وقد ثبت من الإحصاءات المختلفة أن عدد الطلبة المجاورين من غير المبصرين فى الفترة من 1313ه/ 1895م إلى 1319هـ/ 1901م كانوا أكثر من مائتى مجاور يقيمون فى هذه الزاوية.

وكثرت التوسعات فى عهد عبدالرحمن كتخدا فبنيت ثلاث بوابات جديدة باب المزينين (بوابة الحلاقين)، وسمى بذلك لأن الطلاب كانوا يحلقون رؤوسهم خارج البوابة، وباب الصعايدة المخصص لطلاب الوجه القبلى، وباب الشربة (بوابة حساء) المخصص لتقديم الغذاء من أرز وشربة وغير ذلك، وأنشأ منبراً ومحراباً جديدين، وأقام فى أعلاه مكتباً قائماً على عُمُدٍ من الرخام، يتعلم به يتامى الأطفال المسلمين القرآن، وجدد المدرسة الطيبرسية، وأقام منارتين جديدتين.

ثم قاد الأزهر الشريف فى 21 أكتوبر 1798م  ثورة القاهرة الأولى ضد الحملة الفرنسية وقائدها نابليون بونابرت التى أطلقت النار على القاهرة مستهدفة الأزهر فقتلت ستة من العلماء وأصابت ثلاثة آلاف مصرى، ودنست المسجد عمدا، ومشوا فيه بأحذيتهم وبنادقهم  وربطت خيولها فى المحراب ونهبت أرباع الطلاب والمكتبات، ورموا نسخاً من القرآن على الأرض، وفقد نابليون احترام وإعجاب المصريين بعد قيام الثورة، بعد أن كان يحظى باحترام كبير، واغتيل الجنرال الفرنسى جان بابتيست كليبر على يد الطالب الأزهرى سليمان الحلبى، وبعد عملية الاغتيال أمر نابليون بإغلاق المسجد، وظلت أبوابه مغلقة حتى وصول المساعدات العثمانية والبريطانية فى أغسطس 1801م وقد فقد المسجد الكثير من محتوياته بغزو نابليون، يصف الجبرتى الواقعة: وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا فى الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانعا، كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخلت طائفة من باب البرقية ومشوا فى الغورية، وكروا ورجعوا وترددوا وما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين، وتراسلوا إرسالا، ركبانا ورجالا، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشّموا خزائن الطلبة، ونهبوا ما وجدوه بها من المتاع والأوانى والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عرُّوه، ومن ثيابه أخرجوه.. وبفضل تضافر الجهود ومقاومة الأزهريين والمصريين انسحب الفرنسيون من مصر.

 وعند تولى محمد على باشا الحكم كانت النهضة العلمية على يد أبناء الأزهر  فأرسل البعثات العلمية للخارج وجعل إمامتها لطلاب الأزهر الذين عادوا فأنشأوا المدارس والكليات، ومن هؤلاء الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى الذى أسس لكليات اللغات فى مصر وأسهم فى تأسيس الكليات الهندسية والحربية والطبية،  فعندما عاد وذهب ليتسلم عمله مترجما بمدرسة الطب استقبله رئيس التراجم يوحنا أو عنحورى وكان الوالى قد طلب من العنحورى أن يمتحن المترجم الجديد فأعطاه فصلا فى كتاب وقال له ترجمه فى مجلسنا هذا فترجمه رفاعة وعرضه عليه فلما قرأه لم يسعه سوى كونه توجه بترجمته إلى ديوان المدارس وقال للرؤساء (هذا أستاذى!) وهو أحق منى بالرياسة لأنه أدرى منى بالتعريب والتنقيح والتهذيب وهذه هى شهادة الحق التى تقضى له بالسبق ولقد أمضى الطهطاوى فى عمله بمدرسة الطب عامين أنجز فيهما مراجعة الترجمة التى قام بها يوسف فرعون لكتاب التوضيح لألفاظ التشريح وإلى جانب عمله بمدرسة الطب أُسند إليه الإشراف على المدرسة التجهيزية للطب (مدرسة المارستان) وكانت مدة الدراسة بها ثلاث سنوات يدرس فيها طلابها الحساب والهندسة ووصف الكون والتاريخ الطبيعى والتاريخ القديم والحديث  والمنطق ثم انتقل رفاعة الطهطاوى فى 1833م 1249هـ من مدرسة الطب لمدرسة الطوبجية (المدفعية) بطرة كى يعمل مترجما للعلوم الهندسية والفنون العسكرية وكان ناظر هذه المدرسة دون أنتونيودى سكويرا بك الإسبانى الأصل وبعدها بعام انتشر وباء الطاعون فى القاهرة فذهب إلى طهطا بصعيد مصر ومكث هناك ستة أشهر ترجم فى شهرين منها مجلدا من (جغرافية ملطبرون) وعندما عاد للقاهرة قدم هذه الترجمة إلى محمد على باشا فكافأه مكافأة مالية ورقاه إلى رتبة أعلى،  وانتهز رفاعة هذه الفرصة برضا محمد على عنه فطلب منه إعفاءه من الترجمة بمدرسة الطوبجية لخلافاته مع مديرها سكويرابك فأجابه الوالى لطلبه، فتقدم إليه باقتراح لإنشاء المدرسة التى كان يخطط لها (مدرسة الألسن) وقال للوالى عنها إنه يمكن أن ينتفع بها الوطن ويستغنى عن الدخيل وقال فى خطبته بحفل تخريج الدفعة الأولى منها فى 1839م عن قصده من إنشائها: ولايخفى أن أصل تصدينا لإنشاء هذه المدرسة حب إيصال النفع للوطن الذى حبه من الإيمان وتقليل التغرب فى بلاد أوروبا حيث لا يتيسر لكل إنسان، والنصح فى الخدمة.

وكانت تسمى أول ما افتتحت فى 1835م (مدرسة الترجمة) ثم تغير اسمها بعد ذلك إلى (مدرسة الألسن) وعين المتخرجون فيها معيدين فيها ومنهم من عين فى مدرسة المهندسخانة وكان شرط الترقى لأى منهم أن يقوم بترجمة كتاب من الكتب التى يختارها رفاعة وعقب عودة الطهطاوى من منفاه بالسودان عين فى 1855م وكيلا - ناظرا ثانيا- للمدرسة الحربية التى كان ناظرها سليمان باشا الفرنساوى قائد جيش سعيد باشا ولكن طموح الطهطاوى للتربية المدنية جعله يسعى لإنشاء مدرسة مستقلة بالقلعة كانت فى أصل نشأتها مدرسة حربية لأركان الحرب لكنها تحولت بجهود الطهطاوى لمدرسة مدنية أشبه بمدرسة الألسن القديمة، وتولى إلى جانب نظارتها نظارة مدرستى (الهندسة الملكية والعمارة) و(تفتيش مصلحة الأبنية).

كما استعان محمد على باشا فى خطته للنهضة الطبية بطلاب من الأزهر فجعلهم يشاركون  فى البعثة الطبية التى أرسلها لفرنسا فى نوفمبر 1832م وقد تألفت من 12 فردا انتخبوا من مدرستى الطب والصيدلة فى مصر بعد أن أتموا علومهم بهما  وأعضاء هذا البعث كانوا أمثلة عليا فى النبوغ فقد كانوا جميعا من الأزهر وهم الشيخ إبراهيم النبراوى ومحمد الشباسى ومصطفى السبكى والسيد أحمد حسن الرشيدى وعيسوى البحراوى والسيد حسين غانم الرشيدى ومحمد على البقلى  ومحمد الشافعى ومحمد السكرى، وحسين الهيباوى، ومحمد منصور، وأحمد بخيت، وقد كتب الدكتور كلوت بك نبذة عنهم ترجمها الشيخ محمد البتانونى عرف منها ذكاؤهم، وتفوقهم وتمهرهم فى دراستهم إذ يقول إنهم اختبروا من الجمعية العلمية الطبية بحضور عظماء العلماء الأوروبيين فأسفر هذا الاختبار عن ذكائهم وعلو همتهم حتى خطب (البارون ديبويتون) خطبة أثنى عليهم فيها  وبلغ من ثنائه منتهاه ثم أفرط فى الثناء على محمد على البقلى، ومحمد الشافعى والسيد أحمد الرشيدى وحسين الهيباوى، وقد قال عن الأخير إنه ذو حافظة عجيبة حتى إنه فى مدة دراسته فى باريس كان يحفظ الدرس لأول مرة والتلاميذ الفرنسيون يصححون دروسهم منه وكان يملى عليهم ما قيل فى الدرس كما أُلقى بألفاظه وحروفه، وقال عنه إنه بعد عودته لمصر اشتهر فى المدرسة الطبية البحرية بالإسكندرية وبلغت شهرته مسامع الباشا فحصل على أمر منه ألا يدخل أحد من الأوروبيين الخدمة الطبية إلا بعد أن يمتحنه بنفسه مع من يختارهم لاختباره ويسفر هذا الامتحان عن نجاحه ولكن المنية عاجلته.

وحينما لمس محمد على باشا نبوغ طلاب الأزهر فى الهندسة وتفوقهم على غيرهم فى المدارس التى يتعلمون فيها أصدر أمره بتخصيص ماهية شهرية قدرها 40 قرشا للذين صار إلحاقهم من مجاورى الجامع الأزهر بمدرسة (المهندسخانة) بالنسبة لمعلوماتهم ومهاراتهم معللا ذلك بأن مثل هؤلاء لا يقاسون بغيرهم من التلامذة المخصص لهم 15 قرشا، كما قام الخديو إسماعيل بتجديد باب الصعايدة الكبير مع ما فوقه من المكتب فى 1865م بمباشرة ناظر الأوقاف أدهم باشا، وكذا أمر الخديو عباس حلمى الثانى بتشييد الرواق العباسى، وافتتحه فى حفل مهيب فى 18 مارس سنة 1898م.

وفى عهد الملك فؤاد الأول بدأت الدراسة فى الجامعة فى 1933م لتتحول إلى دراسة نظامية داخل القاعات الدراسية بكليات اللغة العربية وأصول الدين والشريعة والقانون ويستمر التطوير فتظهر المبانى الشاهقة بعد ذلك على طراز معمارى متميز، ونظرا لعمليات التطوير والإقبال المتزايد من الوفود للدراسة فى الأزهر بدأ التفكير فى إنشاء مدينة تضم الوافدين فكانت مدينة البعوث الإسلامية التى يرجع التفكير فى إنشائها إلى أواخر عهد الملك فاروق حيث أخذت التبرعات تتوالى لإنشاء هذه المدينة من أمراء الأسرة الحاكمة وغيرهم، ثم صدر الأمر الملكى رقم (34) لسنة 1952م فى 6 مايو 1952م بإنشاء «مدينة فاروق الأول للبعوث الإسلامية»، وتم تخصيص مبلغ 20000 جنيه لهذا الغرض، وأسندت رئاستها الفخرية إلى الأمير محمد عبدالمنعم، إلا أن قيام ثورة يوليو 1952م حال دون استكمال المشروع، ثم تجدد المشروع مرة أخرى فصدر قرار من مجلس الوزراء فى شهر ربيع الأول 1374هـ/ نوفمبر 1954م بإنشاء مدينة جامعية لسكنى الطلبة الوافدين إلى الأزهر كبديل عصرى لنظام الأروقة، وتم تخصيص قطعة واسعة من الأرض قريبة من الأزهر لإقامة تلك المدينة عليها، ورصدت لها ما تحتاجه من المال للبناء والتأثيث والإقامة والتغذية والإشراف، وتم البدء فى تسكين الطلبة فى 12 ربيع الأول 1379 هـ/ 15 سبتمبر 1959م، بعد أن افتتحها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وقد أقيمت على قطعة أرض مساحتها نحو 50 فدان، وتتكون تلك المدينة من أكثر من أربعين عمارة سكنية، وكانت تضم عند افتتاحها نحو خمسة آلاف طالب ينتمون إلى مايقرب من  أربعين جنسية، يقيمون داخل المدينة الكبرى والصغرى المقابلة لها، والآن تضم المدينة أكثر من مائة جنسية ينتمون إلى قارات العالم أجمع، ولم تنس مدينة البعوث الإسلامية أبناءها الطلاب خلال العطلة الصيفية، فالغالبية العظمى من الطلاب لا يسافرون إلى بلادهم إبان تلك العطلة، فقامت المدينة بإنشاء معسكر بمدينة الإسكندرية فى منطقة العصافرة مكون من ثلاث أدوار ومزود بعدد من الملاعب يصلح كمعسكر صيفى لأبنائها الطلاب بذلك الفرع، ويعد هذا المعسكر نموذجاً طيباً يمارس فيه الطلاب ألوانا متعددة من الأنشطة الرياضية والاجتماعية لامتصاص طاقاتهم وشغل وقت فراغهم أثناء الإجازة، ونظرا لزيادة الأعداد الوافدة من الطلاب للدراسة بالأزهر الشريف، ولعدم وجود أماكن خالية بمدينة البعوث الإسلامية بالقاهرة لاستيعاب تلك الأعداد فقد تم تخصيص بعض أجنحة مبنى المعسكر المشار إليه سابقاً لإقامة مجموعة من الطلاب يدرسون بمعهد البعوث الإعدادى والثانوى بالإسكندرية ويقع أيضاً داخل مبنى المعسكر، وتعمل إدارة الأزهر على زيادة العمارات المخصصة لسكنى الطلاب فى المدينة وخارجها بالتعاون مع بعض الحكومات الإسلامية.

وفى 1995م بدأت عملية ترميم الجامع الأزهر وافتتحه الرئيس مبارك بعدها بثلاث سنوات فى 1998م فى حضور الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر، وفى 2014م أصدر الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله- أمرا ملكيا بقيام الممكة العربية السعودية بإعادة ترميم الجامع الأزهر، ثم كانت زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز للأزهر فى 10أبريل 2016م  برفقة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر،  وعدد من كبار المسئولين فى المملكة والأزهر، بتفقد أعمال الترميم بالجامع الأزهر،  ثم جاءت زيارة الأمير محمد بن سلمان ولى العهد فى مارس 2018م لافتتاح عمليات تطوير الجامع الأزهر بصحبة الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر والتى استمرت لثلاث سنوات حيث تعد من أكبر وأوسع عمليات تطوير الجامع على مر تاريخه الذى تجاوز الألف عام،  إذ شملت تغيير وتحديث البنية التحتية للجامع بشكل كامل، بما فى ذلك الأرضيات والأثاث وشبكات الإضاءة والمياه والصرف والإطفاء والتهوية والصوت، وذلك وفقاً لأحدث المعايير والتقنيات العالمية وبخامات تماثل تلك المستخدمة فى الحرم المكى، ومع مراعاة الطبيعة الأثرية للجامع الأزهر تحت الإشراف الكامل لوزارة الآثار المصرية.

طباعة
Rate this article:
4.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg