العاشر من رمضان 1393هـ السادس من أكتوبر 1973م تاريخ متجذر فى ذاكرة الأمة العربية، ومترسخ فى أذهان وعقول المصريين، لأنه يمثل عبورا للأمة الإسلامية، وانطلاقة للشعب المصرى نحو البناء والتنمية، والعبور بالأمة من خندق الحرب وويلاتها، إلى بناء جسور من السلام، وحقن الدماء، والعيش فى سلام فى إطار من التعايش الإنسانى الذى دعاء إليه القرآن الكريم فى قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].
فى هذا اليوم من كل عام تعلو أهازيج النصر والفرح لدى جموع الشعب المصرى فى هذه الذكرى العطرة، التى سطر فيها خير أجناد الأرض أروع ملحمة فى التاريخ، فى التضحية والفداء، فى بذل النفس والمال والدم، من أجل تحقيق شرف الكرامة والدفاع عن النفس، وتحقيق أسمى معانى الأمن والأمان لجموع الشعب المصرى.
إن جيش النسور ربى على عقيدة غاية فى الروعة مستمدة من ديننا الحنيف، وهى عقيدة عدم التعدى على الآخرين، وبذل كل غال ونفيس مهما بلغ ثمنه أو علا شأنه، من أجل تراب الوطن، وحبات رماله.
عاشت مصر جيشا وشعبا على قلب رجل واحد وكان جموع المصرين يوجهون كل ما يملكون صوب تسليح الجيش، وتطوير منظومته، ليكون قادرا على تحقيق نصر مؤزر يسترد معه المصريون معانى الكرامة والعزة والفخار.
كان قادة الجيش فى المواقع المختلفة أقرب إلى مواجهة العدو من الجنود الذين يقودونهم، وكانت علاقة كل منهم بالآخر تجسد علاقة الأب بأبنائه، كل منهم حريص على أن يفتدى الآخر بنفسه وروحه، ورأينا كيف سقط بعضهم مرفوع الهامة والرأس وهو يتابع مواقع الجند على الجبهة وهو الفريق عبد المنعم رياض، الذى استشهد وهو يتابع أبناءه فى المواقع المختلفة على خط الجبهة مع العدو.
إن جنودا سطروا هذه الملحمة على هذا النحو رغم قلة العدة، وضعف الموارد والإمكانات المادية، ورغم ذلك فإنهم كانوا يملكون سلاحا متطورا لم يكن لعدوهم أن يحصل عليه، وهو سلاح الإرادة والعزيمة، والإيمان بالله، والصبر، والثقة فى وعد الله عز وجل، وصدق الله العظيم حيث يقول: "وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [المؤمنون: 47]، وليس هناك أروع إيمانا ممن حاربوا صائمين، مجاهدين، صامدين فى وجه عدوهم.
ويقول: "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ" [الحج: 40]، وليس هناك أروع ممن ينتصر على نفسه، ويقدمها عن طواعية واختيار، فداء للوطن، يقدمها مجاهدا فى سبيل الله من أجل أن تبقى مصر وأهلها مرفوعة الرأس والهامة إلى قيام الساعة.
وإن الناظر إلى هذه الملحمة العظيمة يدرك تمام الإدراك أن ما فعله جيش مصر العظيم فى أكتوبر 1973م يجسد كل معانى الجهاد الحقيقية، التى تحدث عتها القرآن الكريم فى قوله: "وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ" [الحج: 78].
جهاد الدفاع عن مقاصد الشرع، من أجل ترسيخ قيم الأديان فى الأرض، وإحياء النفوس، والدفاع عن الأموال والأعراض، فى ضوء قول الله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [البقرة: 190].
وليس الجهاد الذى تسميه الجماعات الإرهابية الآن جهاد العنف والقتل، جهاد الاعتداء، وسفك الدماء، وترويع الآمنين، والسعى فى الأرض فسادا وإفسادا، وصدق الله العظيم إذ يقول فى شأنهم إلى قيام الساعة: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ".
على هذا النحو يكون الجهاد، وتكون التضحية، ولقد كان لجيشنا البطل جهاد من نوع آخر فى حماية إرادة الشعب، فى ثورته على الإرهاب، وإزاحة الجماعات الإرهابية عن سدة الحكم، لتبقى مصر للمصريين دائما، ولا يزال الجهاد مستمرا فى ملاحقة فلول الإرهاب فى سيناء وفى غيرها من مواقع الجهاد المصرى لتطهير الأرض من دنسهم، ثم تأتى ملحمة البناء والتنمية، وهذا أيضا من أعظم أنواع الجهاد، ليبقى شعار جيشنا دائما: يد تبني، ويد تحمل السلاح.
حفظ الله مصر .. حفظ الله الجيش
د. عبد الحليم منصور