| 29 مارس 2024 م


26 يوليه, 2017

فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر يكتب: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ..

فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر يكتب: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ..

تعلَّمنا فى الأزهر الشَّريف أن إثبات وجود الله تعالى يعتمد على دليل العقل وما يتطلبه من نظر ومقايسة واستنباط، وأنه لا يعتمد على دليل النقل. إذن فالعقل هو مناط معرفة الله، وهو الأساس الذى يعتمد عليه القرآن فى خطابه للناس، وتكاليفه الشرعية سواء فى العبادات أو المعاملات، وهذا هو سر تكرار كلمتى «العقل والعلم» لفظاً ومعنًى واشتقاقاً نحو 865 مرة، وهو ما لا نجده لأية مفردة أخرى من مفردات القرآن سوى «العلم والعقل والمعرفة».

على أن تنويه القرآن بطريق العقل فى تحصيل الإيمان بالله تعالى، لا يعنى أنه أهمل طريق الفطرة، والتى هى: الاستعداد القوى والميل الجارف الذى يدفع بالإنسان دفعاً نحو الإقرار بوجود إله خالق للكون ومُدَبِّر له.

هذا الشعور الذى يُمثِّل قدراً مشتركاً بين الناس جميعاً لا يخلو منه أحدٌ من الناس منذ بدء الخليقة وإلى أنْ يَرِثَ الله الأرض ومن عليها، يشعر به الصغير والكبير والعالم والجاهل، والمتحضر والمتخلف، ويستوى فى الإحساس به الفيلسوف والخامل البليد: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» «الروم: 30».

 غير أنَّ الفطرةَ وإنْ كانت الطريق الأقرب لمعرفة الإنسان بربه، إلَّا أنَّها كثيراً ما تعرض لها علل وأمراض معنوية، وصوارفُ اجتماعيَّة وبيئيَّة تفسدها وتقعد بها عن دورها الخطير فى حياةِ الإنسان.. وتأتى فى مُقدِّمة هذه العِلَل والصوارف وسوسةُ الشياطين وغوايتُهم، ثُمَّ تتلوها أمراض أخرى كإلحاد الأبوين وضلالهما، واضطراب الوسط الفكرى والعقلى وطغيان المادَّة وعبادة الجسد وتأليه الإنسان والاعتداد بالدُّنياً ونسيان الآخرة.. وقد نبَّهَنا النبى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فى الحديث القُدسى الذى يقول الله تعالى فيه: «وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ (أى: حوَّلتهم) عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِى مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً». لذلك كان خطاب العقل فى القُرآنِ هو الخطاب المُعَوَّل عليه تكليفاً وثواباً وعقاباً.

إننا نحن المُنتسبين إلى العلم وأهله مأمورون بالتذكير، اقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم الذى أمره ربه بذلك فى قوله تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» «الذاريات: 55»، «فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى» «الأعلى: 9-10»، والذى أُذكِّر به نفسى وإيَّاكم هو أنَّ العلم والعقل الذى بنى عليهما الإسلام أمره منذ أول كلمة فيه، وجعلهما مناط تكاليفه كلها كبيرة كانت أو صغيرة أوشك أن يخلى مكانه فى حياتنا المُعاصرة إلى أخلاط من ظنون وأوهام وتخيلات، استبدت -أو كادت- تستبد بالعقول، وتؤثِّر على مجتمعاتنا سلباً وارتياباً وشكوكاً، بل تُؤثِّر على استقرار الشعوب وتماسكها الذى هو الشرط الأساسى فى نهضة الدول ونمائها وتقدمها..

ومِمَّا يُتألَّمُ له أشد الألم أن صارت الظنون والأهواء هى فيصل التفرقة فى التعرُّف على الحقِّ والباطل، والخطأ والصواب، وأصبح اللَّبس الذى تثمره هذه الظنون هو الحق الذى لا حقَّ سواه، حتى صار المتمسك بمعيار العقل والمستضىء بمنطقه وعلومه يشعُر بغربةٍ مُوحِشَةٍ من شدَّةِ ما يتناثر على طريقِ الحقِّ من أغاليطٍ ملتوية وشبهات مظلمة وتعميمات كاسحة لو خُلِّى بينها وبين نور الدَّليل وسطوع البُرهان لانمحق زيفها وبهرجها وانقطع ضجيج حناجر الصارخين بها، وقد صدقت الحكمة التى تقول: «إنما بقاء الباطل فى غفلة الحق عنه»، ولله دُرُّ الإمام الغزالى فى كتابه: «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة» حين قال: «لو سكت من لا يدرى لقلَّ الخلاف بين الخلق».

والقرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة حين يأمر بسؤال أهل الذكر في الأمور التي تخفى على الناس ولا يعلم حقيقتها إلا العارفون بها، وذلك في قوله تعالى: «فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» «النحل: 43»، وفي موطن آخر ينهى عن تحكيمِ الظَّنِّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» «الحجرات: 12»، ويقول: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا» «النجم: 28»، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من أن يتخذوا الظَّنِّ معيارًا يتعرَّفون به على حقائق الأشياء، ويُصدرون أحكامهم عليها، وكأنه الحق الذي لا حقَّ غيره، فقال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»، مِمَّا يعني أن من يركن إلى الظن ويتخذه سبيلًا إلى العلم هو كذوب أفَّاك أثيم، وأخطر ما يتكشَّف عنه هذا المنهج المغلوط هو شيوع الشحناء والبغضاء والتخوين الذي هو آفة الآفات في إيغار الصدور، وتجرع مرارة الآلام.

عدد المشاهدة (2407)/التعليقات (0)

كلمات دالة:

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.







حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg