مقدمة
وفقًا للإحصاءات اﻟﺪﻳﻤﻐﺮاﻓﻴﺔ غير الرسمية يُقدر(مركز بيو للدراسات) أعداد اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ في دول الاتحاد الأوروبي، بنحو (26) مليون نسمة تقريبًا، بما يُعادل (5%) من إجمالي سكان الاتحاد الأوروبي، ويقيم معظمهم في فرنسا وألمانيا. كما تشير هذه الإحصاءات إلى أنّ هذا العدد قد "ارتفع بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة"؛ بسبب فرار الأشخاص من مناطق الصراع في أفغانستان والعراق وسوريا إلى دول الاتحاد الأوروبي.([1])
وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات رسمية للأعداد الحقيقية للمسلمين في الاتحاد الأوروبي، إلا أنهم يشكلون ثاني أكبر جالية دينية داخل المجتمع الأوروبي المتعدد الأديان. كما يتنوع المسلمون القاطنون في دول الاتحاد الأوروبي من حيث العرق واللغة والاتجاهات الدينية والسياسية، إضافة إلى تنوع التقاليد والثقافات التي ينتمون إليها.
وتتنوع مظاهر "الأعمال المعادية للإسلام والمسلمين"، بين جرائم التمييز الديني والعنصري، والخطابات التحريضية، والعنف الجسدي، وإلحاق الضرر الوظيفي، وهو ما يعني أن الأذى الذي يتعرض له ضحايا الإسلاموفوبيا لا يقتصر على لحظة الإيذاء بحد ذاتها، بل يمتد ليؤثر نفسيًّا بشكل سلبي على اندماجهم الاجتماعي، وأدائهم الوظيفي، وإسهاماتهم الفكرية. الأمر الذي يحتاج لجهود كبيرة لدعم هؤلاء الضحايا نفسيًّا واجتماعيًّا لتخفيف تأثير هذا التمييز وتلك الاعتداءات.
وفيما يتعلق بضحايا "الأعمال المُعادية للإسلام والمسلمين"، تأتي النساء في المرتبة الأولى. وأما بالنسبة للجهات التي تنفذ تلك الاعتداءات العنصرية فتأتي "المؤسسات" في المرتبة الأولى، يليها "الأشخاص الاعتباريون"، وأخيرًا "الأشخاص العاديون".
المسلمون في الاتحاد الأوروبي: التمييز العنصري والتخوف من الإسلام
في عام 2006، أصدر "المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب" (EUMC)، تقريرًا بعنوان: (المسلمون في الاتحاد الأوروبي: التمييز العنصري والتخوف من الإسلام)([2])، كشف عن وضع المسلمين في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، موضحًا أنّ العديد من المسلمين الأوروبيين يواجهون التمييز العنصري في مختلف جوانب حياتهم، بما في ذلك الشارع والعمل والتعليم والإسكان بغض النظر عن أصلهم العرقي أو موقفهم تجاه الدين.
وأرجع التقرير "التمييز العنصري" ضد المسلمين إلى مواقف التخوف من الإسلام إلى جانب الكراهية العرقية؛ لأن تلك العوامل تتداخل مع بعضها البعض وتشكل تهديدًا لا يستهان به، لذا يجب على المجتمع الأوروبي النظر إلى "العداء تجاه المسلمين" ضمن سياق أوسع ليشمل "كراهية الأجانب"، والتمييز العنصري تجاه المهاجرين والأقليات.
ومن أبرز ما أشار إليه التقرير أنّ العديد من المسلمين في الدول الأوروبية، وخاصة الشباب منهم، يواجهون عقبات كبيرة عند محاولتهم للنهوض والاندماج اجتماعيًّا، مما يؤدي إلى شعورهم بفقدان الأمل والإقصاء من الحياة الاجتماعية. وشدد على أنّ العنصرية والتمييز العنصري والتهميش الاجتماعي يشكلون تهديدات خطيرة تؤثر سلبًا على عملية الاندماج والترابط الاجتماعي. ورغم أنّ البيانات حول حوادث التمييز بسبب الدين لا يتم إحصاؤها إلا على نطاق محدود، إلا أنّ التقرير أكد أنّ المسلمين يتعرضون لحوادث تمييز بسبب التخوف من الإسلام، تتراوح بين التهديدات الشفهية والاعتداءات الجسدية.
كونك مسلمًا في الاتحاد الأوروبي
ومن جانبها أصدرت "وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية" (FRA)، يوم الخميس الموافق 24 من أكتوبر 2024، تقريرًا بعنوان: (كونك مسلمًا في الاتحاد الأوروبي) (Être musulman dans l’UE)([3])، حول ظاهرة "التمييز العنصري" ضد المسلمين خلال السنوات الخمس الأخيرة، في 13 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي. وقد اعتمدت الوكالة على عينة مكونة من (9604) أشخاص تم استطلاع آرائهم سواء عبر الإنترنت أو في مقابلات شخصية عقدت خلال المدة بين أكتوبر 2021 وأكتوبر 2022، وهذا قبل اندلاع "طوفان الأقصى" ضد "الكيان الصهيوني". وينتمي المشاركون في هذه الدراسة إلى 13 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، هي: (ألمانيا، النمسا، بلجيكا، الدنمارك، إسبانيا، فنلندا، فرنسا، اليونان، إيرلندا، إيطاليا، لوكسمبورغ، هولندا، السويد).
وأشار التقرير إلى أنّ هناك زيادة حادة في "التجرد من القيم الإنسانية"، وارتفاع حاد في مؤشر "أعمال التمييز العنصري" ضد المسلمين الأوروبيين داخل دول الاتحاد الأوروبي. وذلك وفقًا لنتائج استطلاع الرأي، والتي أظهرت أنّ (47%) من عينة الاستطلاع أي ما يقرب من واحد من كل اثنين من المسلمين الأوروبيين الذين شاركوا في الاستطلاع هم ضحية للتمييز العنصري بشكل حاد داخل 13 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وأنهم قد عانوا من أعمال التمييز على مدار السنوات الخمس الأخيرة. وأضاف التقرير أنّ مؤشر أعمال التمييز العنصري ضد المسلمين الأوروبيين قد ارتفع من (39%) خلال عام 2016، ليصل إلى (47%) خلال عام 2022.([4])
كما ذكر التقرير أنّ الدول التي تشهد أعلى معدلات عنصرية ضد المسلمين من بين الثلاثة عشرة دولة الأوروبية هي: النمسا بنسبة (71%)، وألمانيا بنسبة (68%)، وفنلندا بنسبة (63%)، في حين تحتل فرنسا المرتبة المتوسطة بنسبة (39%). وبين التقرير أن جميع المسلمين لا يتعرضون لنفس مستوى التمييز، حيث يكون الأشخاص من "الدول الإفريقية الواقعة في جنوب الصحراء الكبرى" أكثر عرضة لخطر "المعاناة من التمييز العنصري"، كما هو الحال مع "الشباب المسلمين المولودين في دول الاتحاد الأوروبي"، وكذلك "النساء اللاتي يرتدين ملابس دينية".
وتفصيلًا، فإنّ النساء اللاتي يرتدين الملابس الدينية، لا سيما الحجاب الإسلامي، يواجهن تمييزًا عنصريًّا أكثر من أولئك اللائي لا يرتدينه، خاصة في سوق العمل بنسبة (45% مقابل 31%). ويضيف التقرير أنّ هذه النسبة المئوية ترتفع إلى (58%) لدى الشابات (16 – 24 سنة) اللائي يرتدين الملابس الدينية. فضلًا عن أنّ المسلمين يواجهون أيضًا التمييز في الحصول على السكن، فإن "ثلث المشاركين (35%) لم يتمكنوا من شراء أو استئجار منزل بسبب التمييز، مقارنة بـ (22%) خلال عام 2016". وعندما يتعلق الأمر بالصحة، فإن المسلمين "أكثر عرضة بمقدار الضعف؛ لعدم تلبية احتياجاتهم الطبية بشكل كاف".
وفيما يتعلق بالتعليم، فإن (30%) من عينة الاستطلاع أكدوا أنهم قد تركوا المدرسة قبل الأوان، مقارنة بـ (9.6%) في المتوسط في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. وفي "لوكسمبورج" أفاد (50%) من العينة أنهم تعرضوا لتجارب سلبية خلال عام 2022.
ووفقًا لما نقلته صحيفة " تسايتونج دير آربايت" (zeitungderarbeit))[5]) الألمانية، عن السيدة "دانييلا جرافوفاتس" من هيئة مكافحة التمييز، فقد تم تسجيل (90) حالة تمييز ضد المسلمين في "شتايرمارك" خلال المدة من يونيو إلى أكتوبر في العام الماضي 2023، حيث ارتفع هذا العدد إلى (158) حالة هذا العام خلال المدة نفسها، مما يمثل زيادة بنسبة (70%). ومنذ الأول من يونيو 2024، أصبح الحجاب موضوعًا للنقاشات والتعديات، خاصة ضد الفتيات المسلمات اللواتي تزيد أعمارهن عن 16 عامًا. وقد تم سماع تعليقات مثل "يجب ترحيلهن"، أو أنهن "يبدين كالخيش"، إضافة إلى تعرضهن لبعض الاعتداءات الجسدية.
كما تشير "جرافوفاتس" إلى أن "رُهاب الأجانب" يتزايد في الوقت الحالي بسبب الحملات الانتخابية الجارية والنزاع في قطاع "غزة"، كما يتزايد أيضًا الشعور بمعاداة السامية. وأوضحت "جرافوفاتس" أن الشهود نادرًا ما يتدخلون في الحوادث التي تنطوي على كراهية الأجانب، مشيرة إلى حادثة وقعت في مدينة "جراتس"، حيث تعرضت فتاة صغيرة ترتدي الحجاب للشتائم في الترام. ورغم تدخل راكبة واحدة، إلا أنها طلبت في البداية من الركاب الآخرين رأيهم بالواقعة، لكن الجميع فضلوا عدم التدخل، مما دفعها للتدخل شخصيًّا لمساعدة الفتاة.
وشددت "جرافوفاتس" على أنّ وسائل الإعلام المحلية تتحمل مسؤولية كبيرة في زيادة معدلات العنصرية من خلال تغطية غير شاملة أو مُنحازة للصراع في الشرق الأوسط، حيث يتم التركيز بشكل رئيسي على النزاع باعتباره "حربًا على "الإرهاب" ضد حركة "حماس"، دون التطرق إلى تفاصيل الواقع المعقد للاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مما يؤدي إلى انتشار صور نمطية وأحكام مسبقة سلبية تجاه المسلمين تؤثر على المجتمع الأوروبي بشكل عام.
وفي بيان صحفي، أعربت السيدة "سيربا روتيو" (Sirpa Rautio) – مدير المركز الفنلندي لحقوق الإنسان ورئيس الشبكة الأوروبية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ومدير وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية – عن أسفها العميق إزاء "الزيادة المقلقة في أعمال العنصرية والتمييز ضد المسلمين في أوروبا". وأوضحت قائلة: "هذا الوضع تُغذيه الصراعات في الشرق الأوسط، ويزداد سوءًا بسبب الخطاب اللاإنساني المعادي للمسلمين الذي ينتشر في جميع أنحاء القارة العجوز".([6])
وأشارت السيدة "سيربا روتيو" إلى أنّ التقرير يركز بشكل خاص على التمييز الذي يحدث في سوق العمل، حيث إنّ "المسلمين هم في أغلب الأحيان ضحايا للتمييز في أثناء البحث عن عمل بنسبة (39%) أو في أماكن عملهم بنسبة (35%)". علاوة على أنّ "اثنين من كل خمسة مسلمين بنسبة (41%) لديهم مؤهلات أعلى من وظائفهم، في مقابل (22%) من إجمالي سكان الاتحاد الأوروبي".
وأوضحت عينة الاستطلاع أن المسلمين الأوروبيين كانوا ضحايا توقيف من قبل الشرطة بسبب "مظهرهم" الخارجي، حيث إن ربع المشاركين في العينة ونسبتهم (27%) تم توقيفهم مرة واحدة على الأقل خلال الخمس سنوات الأخيرة. كما يعتقد (42%) من الذين تم توقيفهم أن التوقيف كان بسبب "أصلهم المهاجر أو العرقي" أو "مظهرهم" الخارجي .
التمييز العنصري ضد المسلمين في فرنسا
ولمواجهة الأشكال المتعددة من التمييز العنصري ضد المسلمين الفرنسيين، سواء في سوق العمل أو في الحياة اليومية، يقرر بعض الخريجين المسلمين مغادرة الأراضي الفرنسية حيث ولدوا. وهذه ظاهرة جديدة تمت دراستها في كتاب نُشر في 26 من أبريل 2024، عن دار النشر (éditions du Seuil)، بعنوان (فرنسا، تحبها ولكنك ترحل عنها) "La France, tu l’aimes mais tu la quittes"، للسيد "أوليفييه إيستيفيس" أستاذ جامعي، بالشراكة مع "جوليان تالبين" مدير أبحاث بالمركز الوطني للبحث العلمي متخصص في مكافحة العنصرية، و"أليس بيكارد" أستاذه مشاركة في الاقتصاد والعلوم الاجتماعية.
في المدة من عام 2011 إلى 2023، أجرى الأكاديميون الثلاثة مقابلات مع عينة مكونة من (1070) شخصًا، بعد دعوة أطلقوها على موقع "ميديابارت" بحثًا عن شهادات في هذا المجال، قبل أن يشرعوا في إجراء (139) مقابلة معمقة مع الأشخاص الذين استجابوا للدعوة.
ولتفصيل نتائج هذا الاستطلاع، استقبلت المذيعة "مارغريت كاتون" في برنامج (La Question du jour))[7])، على أثير "راديو فرنسا"، السيد "أوليفييه إيستيفيس"، عالم سياسي، وأستاذ في جامعة "ليل"، حيث أكد الباحث أنّ ظاهرة التمييز لا تؤثر إلا على جزء محدود من المسلمين الفرنسيين، وأنّ (54%) من عينة الدراسة وصلوا إلى مستوى (BAC+5) على الأقل في التعليم. وهو ما يتباين في نفس الوقت مع السكان الوطنيين ككل ومع المكون الإسلامي للمجتمع الفرنسي.
كما يتميز الأشخاص الذين مثّلوا عينة الاستطلاع بالتدين القوي وشدة الانتماء للدين الإسلامي. إضافة إلى عدد معين من هؤلاء الأشخاص لديهم شكل من أشكال الهوية التفاعلية، التي تتمثل بالتحديد في دفاعهم عن إسلامهم وانتمائهم للإسلام عندما يتعرضون للوصم في الأماكن العامة".
وأضاف السيد "أوليفييه إيستيفيس"، أنّ "مستوى التعليم يمكن أن يدفع بعض الأشخاص إلى التفكير في مغادرة التراب الفرنسي، ولكن المناخ الاجتماعي والسياسي أيضًا يلعبان دورًا حاسمًا في قرار هؤلاء الشباب بمغادرة فرنسا". وأشار إلى أنّ "القنوات الإخبارية المستمرة، وعدد من الصحف، والصحفيين، والمحررين غالبًا ما يركزون على عوامل معينة في الشهادات التي تم جمعها. مشددًا على أنّ "الأشخاص الذين خضعوا للمقابلات هم فرنسيون، ولكنهم يشعرون بشكل مستمر بالاختلاف، من خلال تكرار خطابات عدم الثقة، وشعورهم بالانتقاص من إسلامهم وتصنيفهم كأجانب".
وخلال المقابلات أدلى المشاركون بشهادات حول ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، وأجمعوا على أن الوضع لا يطاق إلى حد أنهم فضلوا طريق الرحيل. كما تفاقمت تلك الظاهرة بشكل خاص منذ اعتداءات الثالث عشر من نوفمبر 2015، مع تأثير سلبي متزايد للخطاب الإعلامي والسياسي المعادي للإسلام والمسلمين.
وقبل هجمات 2015، كشف استطلاع رأى أجراه معهد "إيبسوس" (Ipsos) لصالح جريدة "لوموند" في عام 2013، أن (74%) من الفرنسيين يرون أن الإسلام "لا يتوافق" مع مبادئ وقيم الجمهورية العلمانية. ووفقًا لنفس الاستطلاع فإن أكثر من نصف الفرنسيين يعتقدون أن المسلمين في غالبيتهم (حوالي (10%) من إجمالي عدد المسلمين) أو جزء منهم (حوالي (44%) من إجمالي عدد المسلمين) هم متطرّفون، بدون أن يقدم الاستطلاع توضيحات أو أمثلة حول ما يحمله مصطلح التطرّف من معان في هذا السياق.)[8])
ومنذ صدور كتاب (فرنسا تحبها، ولكنك ترحل عنها)، شهدت وسائل الإعلام الفرنسية ضجة حقيقية وتوترات بسبب نتائج استطلاع الرأي والشهادات التي يتضمنها هذا الكتاب([9])، حيث تضم صفحات هذا الكتاب شهادات العديد من المسلمين الفرنسيين، من بينهم شهادات "مراد" و"سميرة" و"كريم"، الذين يتقاسمون خلفية مشتركة تتمثل في ولادتهم ونشأتهم وتربيتهم على التراب الفرنسي، وأنهم مسلمون، وتخرجوا من التعليم العالي، ولكنهم رغم ذلك قرروا جميعًا مغادرة بلدهم التي ولدوا بها ليهاجروا خارج فرنسا إلى بلد آخر.
كما بينت الشهادات التي أدلوا بها النقطة المشتركة الأخرى بينهم، وهي الأسباب التي دفعتهم للرحيل من فرنسا، وكان على رأسها التمييز العنصري الذي يواجهونه في سوق العمل، وما يتعرضون له من وصم بسبب دينهم، أو أسمائهم أو أصولهم، إضافة إلى العديد من العقبات التي تعيق تقدمهم الاجتماعي. ويؤكد معظمهم أنهم وجدوا في خارج التراب الفرنسي "الحق في الاختلاف وفرص التقدم الاجتماعي التي يفتقرون إليها في فرنسا".
ومن بين الشهادات البارزة في هذا الكتاب، تأتي شهادة "إلهام"، المحجبة ذات الأصل المغربي، والتي قالت: "إنها كانت تتعرض للرفض من قبل زملائها، حتى أنها لم تتمكن من الحصول على وظيفة في المستشفى". لذا قررت "إلهام" هي وزوجها، الذي ينهي أطروحته في الكيمياء الحيوية، الاستقرار في إسبانيا، تحديدًا في "سرقسطة"، حيث شعرت بأن حياتها بدأت من جديد حرفيًّا. وذكرت في شهادتها: "أنا، في إسبانيا، شعرت أنني على قيد الحياة مرة أخرى. نحن قريبون من فرنسا. ليس هناك سوى سلسلة جبال تفصل بيننا، لكن العقلية مختلفة".
وهناك شهادة أخرى مفيدة ، وهي شهادة "عبدال"، والذي يشغل الآن منصب مدير مالي في خارج فرنسا، والذي قال فيها: "في فرنسا، أرسلت سيرتي الذاتية نحو 70 مرة، ولم يرد عليّ أحد. لقد عبرت الحدود إلى لوكسمبورغ، وقدمت 3 سير ذاتية، وأجريت 3 مقابلات".
كما كشف هذا الاستطلاع عن مشاعر هؤلاء الأشخاص الذين يغادرون فرنسا تجاه هويتهم الفرنسية، حيث صرح السيد "أوليفييه إيستيفيس": "أنّ عددًا منهم أفادوا بأنهم تعرضوا منذ طفولتهم للتمييز والتهميش، وكذلك خلال مسيرتهم الدراسية أو غيرها. ونتيجة لذلك فقد تآكل شعورهم بالانتماء إلى الأمة الفرنسية إلى حد ما بسبب تلك التجارب. فكلما تراجع قبولهم داخل الحدود الرمزية للأمة الفرنسية، تزايد شعورهم بأنهم ليسوا فرنسيين. ومع ذلك، يظل شعورهم بالانتماء إلى فرنسا قويًّا جدًّا، خصوصًا بعد مغادرتهم البلاد. هنا تكمن المفارقة: يترافق هذا الانتماء مع ألم وحنين إلى العائلة... مما يشكل عبئًا عاطفيًّا. ورغم ذلك، فإن تسعة من كل عشرة أشخاص على الأقل لا يرغبون في العودة لفرنسا. ومن هنا تأتي صعوبة الحديث عن الاغتراب الذي يفترض في جوهره مسألة العودة. إنها حقًّا "هجرة أدمغة"، لأن هؤلاء الأشخاص لا يريدون العودة إلى فرنسا وطنهم".)[10])
ارتفاع مؤشر الأعمال العنصرية ومعاداة السامية وكراهية الأجانب
وفي تقريرها السنوي الأخير، والذي نُشر في 27 من يونيو 2024، سلطت "اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان" (la CNCDH) الضوء على عدة نقاط رئيسية محذرة فرنسا من الارتفاع الملحوظ في نسبة الأعمال العنصرية ومعاداة السامية، وكراهية الأجانب.
وأشار التقرير إلى تراجع مستوى "التسامح" تجاه الأقليات بشكل خاص بين عامي 2022 – 2023، حيث انخفض مؤشر التسامح من (67) إلى (64) من أصل 100 خلال عام واحد. كما تناول التقرير بيانات أخرى تمت دراستها تتعلق بالتحيزات العنصرية. وبحسب التقرير، فإن هذه الممارسات لا تزال مستمرة في فرنسا، لا سيما ضد الغجر والمسلمين واليهود.)[11])
كما يعتقد (58%) من الفرنسيين أن فرنسا بها "عدد كبير جدًّا من المهاجرين"، مما ساهم في ارتفاع مؤشر الأعمال العنصرية بنسبة (32%) خلال عام 2023، مع زيادة خاصة في الأعمال المعادية للسامية بنسبة فاقت (74%)، والأعمال المعادية للمسلمين بنسبة تخطت (32%).
وفي هذا السياق توصي اللجنة الوطنية بتعزيز جهود مكافحة التمييز، وتحسين استقبال وإدماج المهاجرين، وتعزيز التربية على قيم المواطنة وحقوق الإنسان.
وعقب الهجوم الذي شنته حركة "حماس" ضد "الكيان الصهيوني" في السابع من أكتوبر 2023، شهدت الأراضي الفرنسية "زيادة حادة في أعمال الكراهية تجاه المسلمين"، وتأتي هذه الزيادة نتيجة للتوترات في منطقة الشرق الأوسط. وبدورها أظهرت الصحف الفرنسية، الصادرة يوم السابع من أكتوبر 2024، أنّ هذا الهجوم كان له تداعيات سياسية واجتماعية كبيرة تسببت في انقسامات داخل الوسط السياسي، وكذلك في صفوف المجتمع الفرنسي. كما ارتفعت بشكل ملحوظ حدة الأعمال "المعادية للسامية"، وكذلك "الأعمال العنصرية ضد الإسلام والمسلمين" على الأراضي الفرنسية، التي اتخذت أبعادًا خطيرة للغاية وقد تفاقمت خلال السنوات الأخيرة ووصلت إلى ذروتها بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023.)[12])
خاتمة
ولمكافحة ظاهرة "التنميط والتمييز العنصري" بين البشر بسبب العرق أو اللون أو الدين أو الأصل الإثني، يؤكد تقرير "اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان" (la CNCDH)، على أهمية مكافحة الصور النمطية، وخطاب الكراهية، لا سيما ذلك الخطاب المنتشر على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. كما تدعو اللجنة إلى تحسين تدريب موظفي إنفاذ القانون والقضاة بشأن قضايا العنصرية والتمييز. كما تؤكد اللجنة على ضرورة جمع بيانات إحصائية حول التمييز من أجل مكافحة هذه الظاهرة بشكل أكثر فعالية. ويختتم التقرير بالدعوة إلى تعبئة الجهات الفاعلة كافة داخل المجتمع الفرنسي من أجل مكافحة العنصرية وتعزيز المساواة والتنوع داخل فرنسا.([13])
ومن جانبها دعت "وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية" (FRA) الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى تسليط الضوء على أعمال التمييز والعنصرية ضد المسلمين، وتمديد وتعزيز جهود الاتحاد الأوروبي لمكافحة العنصرية إلى ما بعد عام 2025، مع اتخاذ إجراءات خاصة لمكافحة العنصرية ضد المسلمين على وجه التحديد. كما تحث الدول الأعضاء على جمع بيانات حول أسباب انتشار ظاهرة التمييز من أجل المساهمة في تحسين صنع السياسات ووضع المعايير والأهداف ومؤشرات الرصد.
وتشدد على ضرورة سن وإنفاذ تشريعات مكافحة التمييز بفعالية، وفرض عقوبات أكثر صرامة على حالات التمييز وجرائم الكراهية. إضافة إلى ذلك، تحث الوكالة الدول الأعضاء على التصدي لظاهرة "التنميط العنصري")[14])، من خلال القضاء على الممارسات المؤسسية والثقافات التمييزية التي تؤدي إلى التنميط غير القانوني من قبل الشرطة. وتدعو لمكافحة كافة أشكال العنصرية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك الجهود المستهدفة لمكافحة التمييز العنصري في التعليم والتوظيف والإسكان والرعاية الصحية.[15]
ومن جانبه يرى "مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف" أنه للتصدي بصرامة لهذه الظواهر السلبية التي تُعكر صفو النسيج المجتمعي، وتؤجج نيران الكراهية والانقسام بين فئات المجتمع، يجب مكافحة التيارات والجماعات المتشددة التي تروج لخطاب الكراهية وأعمال العنصرية، مع التوعية بأهمية التعايش السلمي وتعزيز قيم الاحترام المتبادل بين الثقافات والأديان.
إضافة إلى ذلك، ينبغي تعزيز التعاون بين مختلف طوائف النسيج الوطني ومؤسسات الدولة لتعزيز التضامن وبناء جسور التواصل، بهدف خلق بيئية مجتمعية آمنة صالحة لتعزيز شعور الانتماء والأمان بين أفراد المجتمع. إضافة إلى تشجيع وسائل الإعلام على تقديم تغطية إعلامية متوازنة ومسؤولة للقضايا ذات الصلة وتجنب تأجيج الانقسامات داخل المجتمع، بما يساهم في تعزيز التفاهم والتسامح بين جميع أفراد المجتمع.
كما يمكن تعزيز دور المجتمع المدني في مكافحة الكراهية والتنميط والتمييز وبناء مجتمع أكثر انسجامًا وتعايشًا وتسامحًا على التراب الأوروبي من خلال إعداد وتطبيق حزمة برامج توعوية وتثقيفية حول أهمية التصدي للظواهر السلبية وتعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل. هذا إضافة إلى تشجيع المنظمات غير الحكومية الفاعلة والمؤسسات الحكومية على المشاركة في الأنشطة المجتمعية المتعلقة بتعزيز التعرف على الأخر، وبناء جسور التواصل بين مختلف الثقافات والأديان.
كما يمكننا استغلال الفضاء الرقمي والمنصات الإعلامية في نشر الوعي وتعزيز المشاركة في الحملات الدعائية والإعلامية التي تكافح الكراهية والتنميط والتمييز، مع دعم المبادرات الإبداعية التي تهدف إلى تعزيز قيم التسامح والتعايش بين مختلف الطوائف.
دراسة تحليلية.. وحدة الرصد باللغة الفرنسية
([2] (chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://fra.europa.eu/sites/default/files/fra_uploads/1936-EUMC-highlights-EN.pdf
chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://www.media-diversity.org/additional-files/documents/b-studies-reports/EUMC%20Discrimination%20and%20Islamophobia%20[AR].pdf
([8]) https://www.france24.com/ar/%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7/20240520-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86-%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%88%D9%81%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D9%85%D9%8A%D9%8A%D8%B2-%D8%B9%D9%86%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D9%86%D9%81%D9%89
([14]) التنميط العنصري والإثني، الذي يُعرّف على أنه اعتماد أفراد سلطات إنفاذ القانون والأمن ومراقبة الحدود على العرق، أو اللون، أو النسب، أو الأصل القومي ،أو الإثني كأساس لإخضاع الأشخاص لعمليات تفتيش دقيقة، وعمليات تحقق من الهوية وتحريات، أو لتحديد ما إذا كان الشخص متورطًا في نشاط إجرامي، ما فتئ يشكل مسألة مزمنة ومستشرية في مجال إنفاذ القانون، وكثيرًا ما تُطرح مسألة اللجوء إليه عندما يتعلق الأمر بسياسات الأمن القومي والهجرة. وكثيرًا ما يؤدي التنميط العنصري والإثني إلى تفاقم التمييز الذي يعاني منه الناس أصلًا بسبب الأصل الإثني أو الانتماء إلى أقلية، ولا يزال يشكل تحديًا كبيرًا يعترض إعمال حقوق مختلف المجموعات العرقية والإثنية والدينية في جميع أنحاء العالم..
https://www.ohchr.org/ar/documents/thematic-reports/a79195-combating-glorification-nazism-neo-nazism-and-other-practices