تستكمل وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر سلسلة مقالاتها حول "مسلمي آسيا.. ثقافة واندماج"؛ في إطار تعريف مسلمي الأمة الإسلامية بإخوانهم في قارة آسيا، والذين لهم دور كبير في نشر الثقافة الإسلامية، وإثراء المعارف والعلوم الدينية، وفي هذه الحلقة يتناول المقال مسلمي دولة سنغافورة؛ من حيثُ: الموقع، والتاريخ، والثقافة، وكيفية دخول الإسلام إليها، خاصة أن سنغافورة تتمتع بخصائص فريدة في التعايش بين الأديان؛ حيث يُمارس المسلمون شعائرهم بحرية كاملة؛ ضمن إطار قوانين تدعم التسامح الديني. كما يقدم المرصد رؤية شاملة لدور المؤسسات الإسلامية في تعزيز الهوية الدينية للمسلمين، ونشر قيم التسامح والاحترام المتبادل داخل المجتمع السنغافوري المتعدد الثقافات.
سنغافورة: الموقع والتاريخ
سنغافورة: هي إحدى دول قارة آسيا، وتقع في جنوب شرق آسيا، وهي واحدة من أصغر الدول في العالم من حيث المساحة، لكنها من بين الأكثر تقدمًا وازدهارًا. وسنغافورة من الدول الحديثة نسبيًّا؛ حيثُ يبدأ تاريخها من عام 1819م، عندما استولت عليها شركة الهند البريطانية، وجعلتها مستعمرة بريطانية حتى عام 1963م، عندما أصبحت عضوًا في اتحاد ماليزيا، لكنها انفصلت عنها عام 1965م؛ لتصبح دولة ذات سيادة مستقلة، بحسب إحصاءات عام 2021م، يبلغ سكان سنغافورة 5.454 مليون نسمة، وهي من الدول ذات الكثافات السكانية العالية مقارنة بصغر مساحتها.
تمتع سنغافورة بموقع متميز جعلها واحدة من أكبر المراكز المالية والتجارية في العالم؛ حيثُ تَحُدُّها ماليزيا من الشمال عبر جسر جوهور، ويَحُدُّها من الجنوب مضيق سنغافورة والذي يفصلها عن إندونيسيا. تتألف سنغافورة من جزيرة رئيسة، وعدد من الجزر الصغيرة المحيطة بها. تطل سنغافورة على مضيق ملقا، الذي يُعدُّ واحدًا من أكثر طرق الشحن ازدحامًا في العالم؛ مما يجعلها مركزًا اقتصاديًّا، وتجاريًّا إستراتيجيًّا.
بالرغم من أن سنغافورة لا تتمتع بثروات طبيعية تقليدية، مثل: النفط أو المعادن، كما أن أراضيها الزراعية محدودة بسبب مساحتها الصغيرة والكثافة السكانية العالية. ومع ذلك، فقد نجحت سنغافورة في تحقيق التنمية المستدامة من خلال الإدارة الفعالة للموارد، والاهتمام بالتعليم؛ حيثُ يتمتع نظام التعليم في سنغافورة بسمعة عالمية. كما تشتهر سنغافورة بشبكة مواصلاتها المتقدمة، بما في ذلك النقل البحري والجوي؛ لتكون واحدة من أقوى اقتصاديات العالم؛ ما يجعلها نموذجًا فريدًا للدول ذات الموارد المحدودة.
الإسلام في سنغافورة
الإسلام في سنغافورة له تاريخ طويل، ويشكل جزءًا مهمًّا من نسيج المجتمع السنغافوري المتعدد الثقافات؛ فقد عرفت سنغافورة الإسلام في القرون الأولى من الإسلام، لكن تبقى الخطوات الكبرى في نشر الإسلام في سنغافورة بعد انتشار الإسلام في الملايو والهند وإندونيسيا عن طريق التجارة، على يد التجار العرب والهنود المسلمين، الذين كانوا يتنقلون بين الجزر الآسيوية. كما أن لظهور سنغافورة -كمدينة تجارية مهمة في القرن الـ 19- دورًا كبيرًا في زيادة عدد المسلمين، خاصة من الملايو، والهنود. وبالرغم من أن معظم المسلمين في سنغافورة ينتمون إلى المجموعة العرقية الملايوية، التي تُعدُّ من السكان الأصليين للمنطقة. فهناك عدد كبير من المسلمين الهنود والباكستانيين الذين جاءوا للعمل والتجارة، ويُشكِّل المسلمون حوالي 15 ٪ من السكان.
تتمتع الأديان والقوميات كافة في سنغافورة بحقوق وحريات متساوية، بما في ذلك الحرية الدينية، وتحتضن سنغافورة العديد من المدارس والمعاهد الإسلامية والمساجد التي تسهم في نشر التعليم الديني، وتعزيز القيم الإسلامية بين أفراد المجتمع، وقد بلغ عدد هذه المدارس (90) مدرسة، وتسهم هذه المؤسسات في دعم الهوية الإسلامية، وتوفير بيئة تعليمية متكاملة تراعي أصول الثقافة الإسلامية؛ مما يجعلها مصدرًا مهمًّا لنشر التعليم الإسلامي، وتعزيز الوعي الديني في المجتمع السنغافوري.
المساجد والمؤسسات الدينية في سنغافورة
انعكس التعايش والاندماج الموجود داخل المجتمع السنغافوري على واقع المسلمين الموجود داخل البلاد؛ فقد استطاع المسلمون تأسيس محكمة شرعية عام (1378هـ-1958م)، منتشرة في أنحاء البلاد؛ لتلبية احتياجاتهم أينما كانوا، ويسمح القانون في سنغافورة للمسلمين بتطبيق الشريعة الإسلامية في أحوالهم الشخصية والأسرية، وبإشراف من الحكومة السنغافورية تم تأسيس المجلس الديني الإسلامي في سنغافورة (MUIS) وهو الجهة الحكومية المسئولة عن شئون المسلمين في البلاد.
تنتشر المساجد في سنغافورة بشكل كبير، فمنها ما هو قديم وتاريخي، ومنها ما هو حديث، وتعتمد على تبرعات المسلمين في بنائها. وللمساجد في سنغافورة دور كبير في التوعية الدينية والثقافية للمجتمع المسلم؛ فهي ليست مجرد دور للعبادة، بل إن بعضها يضم: مدارس، ومستشفيات، ومستوصفات طبية؛ لخدمة المسلمين، ومن أشهر تلك المساجد: مسجد السلطان، والذي تم بناؤه في عام 1824م، وهو المسجد الأكثر روعة من حيث البناء والتصميم في سنغافورة، وتتسع قاعة الصلاة الرئيسة المؤلفة من طابقين لنحو (5 آلاف) مصلٍّ، ويقع المسجد داخل منطقة كامبونج جلام أو شارع العرب، وبجوار المسجد معبد أسنان بوذا في الحي الصيني، ويعود المسجد إلى السلطان حسين شاه (1776-1835م)، والذي كان أحد الشخصيات البارزة في تاريخ المنطقة؛ حيث ارتبط اسمه بتأسيس سنغافورة الحديثة، وكان حاكمًا لولاية جوهور التي كانت تضم سنغافورة، والذي لعب دورًا محوريًّا في مرحلة التحول التي شهدتها الجزيرة في أوائل القرن التاسع عشر، وفي 14 مارس 1975م تم إدراج المسجد كنصب تذكاري وطني. وهناك العديد من المساجد في البلاد، مثل: مسجد الحاجة فاطمة، ومسجد الجنيد.
سنغافورة والتعددية الثقافية
سنغافورة تُعدُّ نموذجًا ناجحًا للتعددية الثقافية وقَبول الآخر؛ إذ يجمع المجتمع السنغافوري بين خلفيات عرقية ودينية متنوعة تعيش في انسجام وتعايش سلمي. ويُعدُّ هذا التنوع الاجتماعي والديني مثالًا بارزًا في كيفية إدارة مجتمع متعدد الأعراق ضمن إطار وطني موحد؛ فقد هاجر إليه العديد من سكان دول الجوار، ويقارب عدد السكان 5,567,301، ويتكون الشعب السنغافوري من 70% من السكان من الصينيين، و20% من شعب الملايو، و7% من أصل هندي، و3% من أصل عربي، وهناك أربع لغات رسمية هي: الإنجليزية، والصينية، والماليزية، والتاميلية، وتُعدُّ اللغة الماليزية هي اللغة القومية، واللغة الإنجليزية لغة المكاتبات الحكومية والمدارس والكليات، كما تصدر الصحف، وتبث البرامج الإذاعية والتلفازية باللغات الأربع.
ويحتل الإسلام المرتبة الثانية بين سكان سنغافورة؛ فأكبر الأديان اعتناقًا: البوذية بنسبة 34%، يليهم المسلمون 14%، ثم الطاوية 11%، ثم المسيحيون 7%، ثم الهندوس 5%، ثم طوائف مسيحية أخرى بنسبة 11%، ويتبقى نسبة 16% لا دين لهم.
وتُعدُّ جمهورية سنغافورة مركزًا حيويًّا للمهاجرين منذ عقود؛ إذ تتميز بموقعها الإستراتيجي في جنوب شرق آسيا؛ مما جعلها نقطة جذب تجارية وسياحية؛ حيث تعتمد سنغافورة بشكل كبير على الهجرة؛ لدعم اقتصادها، ويشغل المهاجرون فيها مختلف القطاعات.
ومن أبرز مظاهر قبول التعددية في سنغافورة هو تولي "حليمة يعقوب" رئاسة سنغافورة؛ لتصبح بذلك أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ البلاد، وجاء انتخابها بعد مسيرة علمية وسياسية طويلة؛ لتُنتخب بالتزكية كرئيسة للجمهورية. اشتهرت حليمة بدفاعها عن قضايا المرأة، والعمل، والرعاية الاجتماعية، وعُرفت بأسلوبها المتواضع، وتواصلها مع جميع أطياف المجتمع.
وحدة الرصد باللغة الصينية