تُعدّ المساجد التاريخية مراكز روحية وثقافية حيوية خلال شهر رمضان، إذ تجمع بين الأبعاد الدينية والاجتماعية والثقافية، مما يجعلها أكثر من مجرد أماكن للصلاة، فهي ليست شاهدة فقط على عراقة التقاليد الإسلامية، بل توفر أيضًا بيئة مثالية للتأمل والتعبّد. وإلى جانب دورها دورَ عبادة، تسهم هذه المساجد في تعزيز قيم التكافل الاجتماعي والتقوى، من خلال الإفطارات الجماعية، والخطب الدينية، وحلقات تلاوة القرآن الكريم، ما يجسد روح الإسلام الحقيقية في هذا الشهر الفضيل.
وخلال رمضان، تزداد أهمية هذه المساجد، إذ تتحول إلى مراكز نابضة بالحياة الروحية والتآلف الاجتماعي، حيث يجتمع المسلمون من مختلف الفئات لأداء العبادات والتواصل فيما بينهم. وفي العالم الإسلامي، تحتفظ المساجد التاريخية بمكانة خاصة، ليس فقط لكونها دور عبادة، بل أيضًا لكونها رموزًا حضارية تعكس تطور العمارة الإسلامية والدور الديني على مر العصور.
وفي هذا السياق، يبرز الجامع الكبير في دلهي بالهند ومسجد بادشاهي في لاهور بباكستان معلمين إسلاميين بارزين، حيث يلعبان دورًا محوريًّا خلال شهر رمضان. فهما يستقطبان آلاف المصلين الذين يؤدون فيهما الصلوات، كما تحتضنان فعاليات دينية واجتماعية تعزز قيم الوحدة والتراحم داخل المجتمع الإسلامي، ما يجعلهما شاهدين على عظمة التراث الإسلامي وروحانيته العميقة.
الجامع الكبير في دلهي ودوره في رمضان
يُعرف الجامع الكبير في دلهي، أو جامع مسجد دلهي، بأنه أحد أكبر وأهم المساجد في الهند، وقد بناه الإمبراطور المغولي شاه جهان في عام 1644م ليكون معلمًا دينيًّا وثقافيًّا بارزًا يعكس عظمة العمارة الإسلامية. وتروى قصص عجيبة عن وضع حجر أساس هذا المسجد، تدل على شدة ورع شاهجيهان ومواظبة على صلاة التهجد بالليل. فيقال: إنه عند البدء بوضع الأساس جمع حاشيته ووزراءه وقضاته والعلماء الملتفين حوله، ثم طلب ممن لم يفته قيام الليل مرة واحدة أن يتقدم لوضع حجر الأساس فأمسكوا وتوقفوا. فتقدم هو شاكرًا الله على نعمته عليه أن لم تفته صلاة الليل ولا مرة.
ومما يذكره التاريخ لمسجد دلهي الجامع أنه كان معقلًا للثوار المسلمين عام 1857م ضد الإنجليز، وبعد إخماد الثورة منع الإنجليز المسلمين من الصلاة فيه فظل مغلقًا حتى عام 1862م. ولم يكتف الإنجليز بإغلاق المسجد في حينه، بل نهبوا الأوقاف الكثيرة التابعة للمسجد، ولم يتركوا أثرًا للمدرسة الملحقة به عند الباب الجنوبي، وهي التي كانت تسمى دار البقاء، وكذلك فعلوا بالمستشفى الملكي المقام عند الباب الشمالي للمسجد، وقد كان يعالج المرضى مجانًا.
يتميز المسجد بمآذنه العالية وقبته الضخمة وساحاته الواسعة التي تستوعب عشرات الآلاف من المصلين، مما يجعله أحد أهم مراكز العبادة في البلاد.
خلال شهر رمضان، يتحول المسجد إلى مركز روحي حافل بالأنشطة الدينية والاجتماعية. يزداد الإقبال عليه مع اقتراب وقت الإفطار، حيث تتجمع العائلات والمسافرون في ساحاته الواسعة التي تجمع الصائمين من مختلف الفئات الاجتماعية لتناول وجبة الإفطار الجماعي التي تنظمها الجمعيات الخيرية والمتطوعون. كما يحرص المصلون على أداء صلاة التراويح والتهجد، التي يحييها أئمة وعلماء مشهورون بتلاواتهم العذبة وخطبهم المؤثرة.
إلى جانب الصلاة، يستضيف المسجد ندوات دينية وفعاليات ثقافية تتناول موضوعات مثل أهمية الصيام، وتعاليم الإسلام في الرحمة والتكافل الاجتماعي، إضافة إلى دروس تفسير القرآن الكريم. وخلال العشر الأواخر من رمضان، يزداد الإقبال على المسجد بشكل كبير، حيث يعتكف العديد من المسلمين داخله، طلبًا للصفاء الروحي وتقربًا إلى الله، في أجواء مفعمة بالإيمان والسكينة.
كما يساهم المسجد في دعم الفقراء والمحتاجين من خلال توزيع وجبات السحور والإفطار، وإقامة برامج خيرية تهدف إلى تعزيز التضامن الاجتماعي. كل هذه الفعاليات تجعل من الجامع الكبير في دلهي ليس فقط صرحًا دينيًّا شامخًا، بل أيضًا رمزًا للتراحم والوحدة بين المسلمين في الهند.
مسجد بادشاهي في لاهور: مَعلم تاريخي وتجربة روحية
ثمة قول مأثور في إقليم البنجاب يقول: "إذا لم تقم بزيارة لاهور، فأنت لم ترَ باكستان، وإذا لم ترَ مسجد بادشاهي، فأنت لم ترَ لاهور". وفي الحقيقة، لا يمكن للعين أن تخطئ ذلك المسجد المبني من الطوب الأحمر الكبير في مدخل مدينة لاهور التاريخية، حيث يُعتبر مسجد بادشاهي في لاهور واحدًا من أعظم المساجد في العالم الإسلامي، وهو تحفة معمارية شيدها الإمبراطور المغولي أورنجزيب عام 1673، ليكون رمزًا لقوة الإمبراطورية المغولية وعظمتها الدينية. يتميز المسجد بتصميمه الفريد الذي يجمع بين الفخامة والروحانية، حيث تُغطى جدرانه بالزخارف المغولية الفاخرة، ويضم ساحة ضخمة تتسع لعشرات الآلاف من المصلين، مما يجعله واحدًا من أكبر المساجد في العالم.
لعب المسجد دورًا بارزًا في التاريخ الباكستاني، فقد شهد العديد من الأحداث السياسية والدينية، وكان منبرًا للعلماء والخطباء الذين ساهموا في نشر الإسلام وتعاليمه. كما كان موقعًا مهمًّا للتجمعات الشعبية والمناسبات الدينية والوطنية، مما عزز مكانته مركزًا روحيًّا وثقافيًّا في باكستان.
مع حلول شهر رمضان، يتحول مسجد بادشاهي إلى واحة إيمانية تتوافد إليها أعداد هائلة من المسلمين لأداء العبادات والتقرب إلى الله. تبدأ الأنشطة اليومية فيه منذ صلاة الفجر، حيث تُقام دروس تفسير القرآن الكريم، وتُلقى المحاضرات الدينية التي تتناول القيم الإسلامية وأهمية الصيام والتراحم بين المسلمين. ويبلغ الحضور ذروته عند صلاة التراويح، حيث تتعالى أصوات التلاوات العذبة في أرجاء المسجد، مما يخلق أجواء روحانية مؤثرة.
إحدى أبرز الفعاليات الرمضانية في المسجد هي موائد الإفطار الجماعي، حيث يتم تقديم وجبات الإفطار للصائمين، خاصة المحتاجين والمسافرين، في مشهد يجسد روح التكافل الاجتماعي. كما يُخصص جزء من المسجد للاعتكاف خلال العشر الأواخر من رمضان، حيث ينعزل المصلون عن مشاغل الدنيا للتفرغ للعبادة والدعاء.
لا يقتصر دور مسجد بادشاهي على الجانب الديني فحسب، بل يمتد ليكون مركزًا ثقافيًّا وتاريخيًّا، حيث يزوره المسلمون من جميع أنحاء العالم للاستمتاع بجماله المعماري والتعرف على إرثه العريق. وهكذا، يبقى المسجد شاهدًا على عظمة الحضارة الإسلامية ومصدرًا للإلهام والتقوى خلال شهر رمضان وسائر أيام السنة.
تُجسد المساجد التاريخية، مثل الجامع الكبير في دلهي ومسجد بادشاهي في لاهور، روح الإسلام المتجذرة في القيم الروحية والاجتماعية، حيث تتحول خلال شهر رمضان إلى مراكز نابضة بالحياة، تحتضن المصلين من جميع الفئات، وتُحيي فيهم معاني الإيمان والتراحم.
إن دور هذه المساجد لا يقتصر على كونها أماكن للصلاة فحسب، بل يمتد ليشمل ترسيخ الهوية الإسلامية، وتعزيز التضامن المجتمعي، وإحياء التراث الحضاري العريق. وبينما تتعالى فيها أصوات التلاوات العذبة، وتجتمع فيها القلوب على موائد الإفطار والاعتكاف، تبقى هذه الصروح شاهدة على عظمة الإسلام ورسالة السلام والتآخي التي يحملها، لتؤكد أن رمضان ليس مجرد شهر للصيام، بل موسمٌ للروحانية والتلاحم الإنساني الذي تتجلى فيه أسمى معاني العبادة والتواصل بين المسلمين في كل مكان.