الإسلاموفوبيا.. وما يرافقها من عداء متجذر تجاه المسلمين، أضحت ظاهرة متفشية في أوروبا، تتسع رقعتها يومًا بعد يوم، ولا نستثني من ذلك إسبانيا؛ هذه الأرض التي كانت يومًا ما شاهدًا على انسجام الحضارات وتمازج الثقافات، لم تعد بمنأى عن تلك التوترات التي تسللت إلى أوصال المجتمع الإسباني. لقد ألقى الإرهاب بظلاله الثقيلة، وألقت التغيرات السياسية والاقتصادية بريحها العاتية، فتغذت منها التيارات اليمينية المتطرفة، لتصب جام غضبها على جاليات مسلمة عريقة، تسكن إسبانيا بسلام. وبين أحضان تلك المملكة يعيش ما يزيد عن مليوني مسلم، جاء أكثرهم من شمال إفريقيا، وخاصة المغرب، يحملون معهم إرثًا حضاريًّا غنيًّا، في حين ينتمي آخرون إلى أصول إسبانية متفرقة. وتظل قطلونية بمسلميها الذين يشكلون جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي مسرحًا حيًّا لهذا التفاعل العميق بين الهويات، ومعقلًا لمقاومة تلك الرياح الباردة التي تحاول أن تعبث بروح التسامح والانفتاح.
ولم تعد الإسلاموفوبيا مجرد كلمات أو تصريحات عدائية تتردد على ألسنة المتطرفين، بل تحولت إلى سياسات وقوانين تمييزية ترسخ التفرقة وتزيد من معاناة المسلمين. تتجلى هذه الظاهرة في الاعتداءات الجسدية والنفسية التي يتعرض لها المسلمون يوميًّا، فضلًا عن المضايقات المتكررة التي تتعرض لها النساء المحجبات خاصةً، وهن الأكثر عرضة للاستهداف والتمييز. وتسعى التنظيمات المتطرفة جاهدة إلى تشويه صورة المسلمين عبر ربطهم بالإرهاب والتطرف، ما يعمق الهوة بين مكونات المجتمع الإسباني، ويزيد من حدة الانقسامات والتوترات. وفي هذا المناخ المتأزم، يجد مسلمو إسبانيا أنفسهم في مواجهة حملات عدائية تتفاوت بين الخطابات المتطرفة والإساءات العلنية، وبين حوادث العنف الجسدي التي لا تفرق بين الأفراد والممتلكات.
واحدةٌ من أبرز مظاهر الإسلاموفوبيا هي تلك الهجمات المنظمة ضد النساء المحجبات اللواتي أصبحن هدفًا للخطابات السياسية والتهجم الإعلامي؛ حيث يُستخدم الحجاب رمزًا للهجوم على عقيدتهن وقيمهن.
وفي قطلونية، التي تتحدث عن تعدديتها الثقافية واستقلالها النسبي، أضحت الإسلاموفوبيا أداة لبعض الأحزاب والتيارات السياسية المتطرفة التي تروج للعداء ضد المسلمين. وعلى الرغم من تنوعها الثقافي والعرقي، فإن هذه المنطقة ليست محصنة تمامًا من تلك الأفكار المتعصبة. لقد تسللت الإسلاموفوبيا إلى النقاشات السياسية هناك، كما برزت مؤخرًا في البرلمان القطلوني، مما يعكس تأثير هذه الظاهرة حتى في أروقة السياسة؛ حيث يجب أن يكون الحوار عنوانًا للتسامح والانفتاح.
ففي إحدى جلسات البرلمان القطلوني، تصاعدت موجة من التوتر السياسي إثر تصريح لاذع أدلت به النائبة المتطرفة "سيلفيا أوريولس"، زعيمة حزب "التحالف القطلوني" اليميني المتطرف. كان الحديث في بدايته منصبًّا على قضايا تتعلق بتشكيل الحكومة الإقليمية، غير أن "أوريولس" سرعان ما استغلت المنبر لتحويل النقاش إلى هجوم شخصي على النائبة المسلمة "نجاة درويش" بسبب ارتدائها الحجاب. وفي كلمتها التي غلب عليها التحريض، لم تكتفِ "أوريولس" بالتشكيك في الوجود الإسلامي داخل المؤسسات السياسية، بل وصفت الحجاب بأنه "رمز للتمييز ضد المرأة"، محاولة بذلك زرع بذور الكراهية ضد الإسلام والمسلمين بين أروقة البرلمان.
وعلى الرغم من أن كلمات "أوريولس" لم تكن موجهة بشكل صريح إلى "نجاة درويش"، فإن مغزاها كان واضحًا لا يخفى على أحد. فقد أثارت تصريحاتها الاستفزازية استياءً واسعًا بين أعضاء البرلمان الذين رأوا فيها تحريضًا صريحًا على الكراهية والعنصرية وممارسة للإسلاموفوبيا بشكل جلي. ومن أبرز الذين تصدوا لهذا الخطاب التحريضي كان رئيس الحكومة القطلونية، سالبادور إيا، الذي لم يتردد في الدفاع عن النائبة "نجاة" بحزم.
وفي ردٍّ قوي ألهب قاعة البرلمان، قال "إيا" مخاطبًا "أوريولس": "إن النائبة نجاة التي ليست من حزبي السياسي، تفوقك ليس بعشرة أضعاف، بل بألف ضعف". كلماته كانت أشبه بسيف من البلاغة قاطع، نال من صميم الخطاب المتطرف، وأشعل تصفيقًا حارًّا من الحضور، ولا سيما من نواب حزب الجمهوريين القطلونيين الذين أبدوا دعمهم غير المحدود للنائبة "نجاة"، مجسدين بذلك روح التضامن في وجه التعصب الأعمى. واعتبر "إيا"، الذي يُعد أحد الأعلام السياسية البارزة في قطلونية، هجوم "أوريولس" تجاوزًا فاضحًا لجميع الحدود الأخلاقية والسياسية. ففي خطابه، أشار "إيا" إلى أن الانتقادات التي طالت الحجاب تمثل اعتداءً صريحًا على حرية الدين والتعبير، وهما ركيزتان أساسيتان للديمقراطية القطلونية التي تعتز بتعدديتها وتسامحها. وقد كانت كلماته تجسيدًا للالتزام العميق بحماية حقوق الأفراد، وعدم التفريط في مبادئ القيم الإنسانية الأساسية، التي تتجاوز الانتماءات الدينية والثقافية.
وفي خضم هذا الدفاع القوي، نالت النائبة "نجاة" تأييدًا واسعًا من زملائها في البرلمان، الذين عبروا عن استيائهم العميق من التصريحات المتجردة من الإنسانية. وقد كان تعبيرها عن امتنانها لرئيس الحكومة "إيا" بمثابة لفتة مؤثرة؛ حيث وضعت يدها على قلبها، ما أضاف عمقًا إنسانيًّا إلى مشهد الدعم الذي نالته. هذه اللحظة كانت تجسيدًا لمبادئ الوحدة والتضامن، وتأكيدًا على أن قطلونية، برغم التحديات، تظل وفية لقيم التسامح والانفتاح، مواجهة بذلك الأصوات المتطرفة التي تسعى لزعزعة أسس التعايش المشترك.
نجاة درويش، التي تتألق كإحدى أبرز الشخصيات السياسية المسلمة في قطلونية، وُلدت في المغرب قبل أن تصل إلى إسبانيا في عام 1990م وهي طفلة صغيرة. بدأت مسيرتها العملية أخصائيةً اجتماعية، ثم انخرطت في دراسة اللغة والآداب، مما مهد لها طريقًا نحو تحقيق مكانة مرموقة بوصفها أستاذة. فمنذ أن دخلت عالم السياسة، خصصت جهدها بلا كلل لتعزيز حقوق الجاليات المسلمة والمهاجرين في إسبانيا، وكانت دائمًا صوتًا قويًّا ومؤثرًا في الدفاع عن المساواة ومحاربة التمييز. ومنذ عام 2018م، شغلت "نجاة" مقعدها في البرلمان، لتصبح واحدة من أبرز المدافعين عن حقوق المرأة، والمساواة العرقية، والدينية. كما لعبت دورًا محوريًّا في صياغة قانون "المساواة في المعاملة وعدم التمييز"، والذي يهدف إلى مكافحة جميع أشكال التمييز، بما في ذلك الإسلاموفوبيا. ومن خلال مساهماتها الملموسة والمتعددة، تظل "نجاة درويش" رمزًا للالتزام بالتغيير الإيجابي، وتجسيدًا للتفاني في خدمة القيم الإنسانية، والمبادئ الديمقراطية.
وعلى الرغم من أن هذه الحادثة ليست سابقة في المشهد السياسي القطلوني أو الإسباني، فإنها تجسد بجلاء تصاعدًا لافتًا في خطاب اليمين المتطرف الذي يستهدف المسلمين بشكل متسارع ومتزايد. ففي ظل تصاعد تأثير الحركات اليمينية المتطرفة على الساحة الأوروبية بأسرها، تحولت الإسلاموفوبيا إلى أداة سياسية بارزة تستخدمها هذه الجماعات لتوظيف مخاوف الجماهير وكسب تأييدهم، مستغلةً القلق والريبة في خدمة أجنداتها السياسية. ومع ذلك، فإن الدعم الذي حظيت به النائبة "نجاة" من زملائها في البرلمان يشكل دليلًا على وجود قوى سياسية راسخة في التزامها بالدفاع عن قيم التعددية الثقافية والدينية داخل المجتمع القطلوني.
وهذا الصراع بين القوى المدافعة عن التسامح والتعددية من جهة، والقوى المتطرفة الساعية لنشر الكراهية من جهة أخرى، يمثل تجسيدًا حيًّا للتحديات العميقة التي تعصف بالديمقراطية الإسبانية في وقتنا الراهن.
إنه صراع يعكس الأزمات الجوهرية التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة، ويكشف بوضوح عن مدى الانقسام بين الفئات الساعية إلى تعزيز القيم الإنسانية المشتركة، وتلك التي تسعى إلى تقويضها خدمة لأجندات ضيقة، وأيديولوجيات متطرفة.
وفي نهاية المطاف، يؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن هذه الحوادث تظل تذكيرًا قويًّا بضرورة التصدي للإسلاموفوبيا بجميع أشكالها ومظاهرها. كما أن محاربة هذه الظاهرة لا تقتصر على الاستجابات السياسية فحسب، بل تستدعي أيضًا نشر الوعي، وتعزيز ثقافة التسامح، والاحترام المتبادل. فالتغلب على الكراهية والعنصرية يتطلب تنسيقًا وثيقًا بين جميع مكونات المجتمع لبناء بيئة تسودها قيم الحوار والتفاهم، ولترتقي القيم الإنسانية إلى مستوى الأفعال اليومية، والمواقف السياسية.
ويشدد المرصد على أن هذا الجهد يتطلب التزامًا عميقًا بإرساء مبادئ العدالة والمساواة، وتجسيدها في كل جانب من جوانب الحياة، ما يعكس التزامًا راسخًا ببناء مجتمع متماسك ومزدهر، ينعم بالتنوع ويدعمه بكل السبل الممكنة. ويلفت المرصد إلى أن القضاء على الإسلاموفوبيا يُسهم في تأسيس مجتمع قائم على العدالة والمساواة، إذ يتمكن الأفراد من العيش بحرية دون خوف من التمييز أو الاضطهاد على أساس الدين.
إن مكافحة الإسلاموفوبيا، تعزز من قيم التعايش السلمي وتقبل الآخر، ما يقوي الروابط الاجتماعية بين مختلف الفئات، مما ينعكس إيجابيًّا على استقرار المجتمع وازدهاره، حيث يصبح التعاون والاحترام المتبادل الأساس لبناء مستقبل أكثر شمولية وتضامن لجميع أفراد المجتمع على حد سواء.
وحدة رصد اللغة الإسبانية